المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللغة العبرية ام اليونانية ام الآرامية… أي لغة تكلم بها يسوع؟


jerjesyousif
07-11-2024, 05:06 PM
اللغة العبرية ام اليونانية ام الآرامية…
أي لغة تكلم بها يسوع؟


ترجمة الأب سامر يوسف هندو
مراجعة المطران د. يوسف توما

اعلام البطريركية الكلدانية - 1-7-2024

إن مسألة اللغة التي كان يسوع يتحدث بها، استحوذت على اهتمام المفسرين واللاهوتيين لعدة قرون، ولا تزال حتى يومنا الحاضر حديث العصر.
عندما عُرِضَ فيلم “الآم المسيح” للمُمثل والمخرج Mel Gibson في عام 2004 في السينمات العالمية، سلط الضوء على اللغة الآرامية التي تحدث بها يسوع والناس المحيطين به. والمعروف في أوساط مسيحيي الشرق وبالأخص للمغتربين في المهجر، غالباً ما يطرح هذا السؤال الذي يُثير تساؤل مجموعة من المؤمنين وخصوصا المؤمنين الغربيين. ومن الشائع على سبيل المثال، عندما نحضر قداس بالطقس الماروني في كنسية سيدة لبنان في باريس ونسمع الكاهن [اللبناني] يُعلن أن “لغة القداس ستكون بالآرامية، لغة المسيح”. ومن الشائع أيضا عند مقابلة أي كلداني من مدينة سارسيل الفرنسية سيقول إن كنيسته لا تزال تتحدث لغة المسيح. وهكذا الحال ايضا لدى السريان والآشوريين.
مع ذلك، وبعيدا عن كل المشاعر الجيّاشة، التقية والمشروعة التي يثيرها هؤلاء الناس حول لغة المسيح التي نطق بها قبل الفي عام، من الضروري ان نتساءل، لأن دراسة هذا الموضوع المعقد يستحق البحث والتدقيق. فهذه الجماعات [المؤمنة] تقول إنها تتحدث لغة المسيح، لكن هل هذا هو الحال حقا؟ بأي لغة تكلم المسيح؟ هل هي لغة الليتورجيات أم لهجات مختلف الكنائس والطوائف العريقة التي من أصول سريانية؟
السياق التاريخي العام
منذ القرن الثامن قبل الميلاد، أصبحت الآرامية اللغة المشتركة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وذلك بفضل العديد من الإمبراطوريات المتعاقبة التي اتخذتها لغة رسمية، وهي الآشورية الجديدة (934-609)، البابلية الجديدة (626-539)، الفارسية الأخمينية (559-330). حتى لو كانت فتوحات الاسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد قد فرضت اللغة اليونانية التي انتشرت بحكم الأمر الواقع وفرضت نفسها في المناطق الإمبراطورية، لكن الآرامية بقيت اللغة الرئيسة في الشرق الأوسط حتى وصول الإسلام في القرن السابع الميلادي.
منذ عودة اليهود من السبي في بابل عام 538 ق.م، حلت الآرامية محل العبرية عند اليهود وأصبحت اللغة السائدة حتى وصول الإسلام. ويشهد لهذا كثيرٌ من الكتابات اليهودية المهمة التي كُتِبَت بهذه اللغة، مثل أجزاء معينة من الكتب المقدسة كالنبي دانيال وعزرا، والترجوم، وهو إعادة صياغة آرامية للكتاب المقدس العبري، تم تجميعه بعد السبي البابلي او تلمود اورشليم من القرن الثاني الى الخامس ق.م وتلمود بابل كتب في القرن السادس ق.م.
دعونا نقترب الآن من السياق المباشر ليسوع، أي في فلسطين في القرن الأول.
كان داخل المجتمعات اليهودية ثلاث لغات تتلاقى:


الآرامية، وكانت لغة التبادل الأساسية لليهود منذ السبي؛
اليونانية، منذ ألكسندر الكبير؛
العبرية التي كانت لغة دينية علمية او طقسية.


اللغات في فلسطين في القرن الأول
لنبدأ بالعبرية، لغة اليهود بامتياز. في أيام يسوع، كانت الحالات التي يتمّ التحدث بالعبرية استثنائيًا. وبعد ان تم استبدالها بالآرامية، أصبحت العبرية لغة مقدسة وزالت من الاستخدام اليومي. استعملها العلماء في نقاشات لاهوتية وكانت بالتأكيد بمثابة لغة طقسية. شِيَعٌ دينية مثل جماعة قُمران استخدمتها بشكل أساسي. أما الغالبية العظمى من مخطوطات البحر الميت فكانت بالعبرية و15% فقط بالآرامية. بالنسبة ليسوع، كان يعرف العبرية؛ فالأناجيل تعطي أمثلة على ذلك باستعماله لفائف التوراة بالعبرية، ومن المحتمل جدا أنه شارك في تعاليم المجامع والجدالات مع علماء الشريعة بالعبرية. وبصرف النظر عن هذه الحالات المحددة، ربما لم تكن اللغة العبرية هي التي استخدمها المسيح.
في فلسطين القرن الأول، كانت اليونانية منتشرة على نطاق واسع في أوساط اليهود، لكن بمستوياتٍ متفاوتة بحسب المناطق. ففي اورشليم، كانت الطبقات العليا تستخدم اليونانية، للأغراض التجارية، والعديد من اليهود للتجارة والتبادل مع “الوثنيين”. وفي الجليل، كانت تُستعمل في كثير من المدن مثل بيت شيعان (سكيتوبونس) او الصفورية بجانب الناصرة. وكانت هذه عاصمة الجليل اثناء الثورة اليهودية الكبرى 66 – 73م، وفي مدن أخرى، مثل كفرناحوم، كانت اليونانية حاضرة، كلغة عالمية إذ كانت منطقة الجليل على مفترق طرق التجارة.
تعود أسباب توسّع اليونانية نتيجة صمودها في الجليل، لكنها تلاشت في الجنوب الذي كان يتحدث بها مرارًا. اما جماعات الشتات التي كانت معظمها من الهلينيينل، كالحال في الإسكندرية، فقد كانت تستخدمها بطريقة متواصلة وأسهمت في انتشارها في منطقة يهوذا من خلال الاتصالات التي اقامتها مع مجتمعاتها. كان يسوع، كالعديد من يهود عصره، يعرف اليونانية كلغة ثانوية دون ان يستخدمها بالضرورة بصورة منهجية. دافع الكثير من مفسري الكتاب المقدس عن مسألة استخدام يسوع للغة اليونانية، ولا سيما في موعظته على الجبل التي حضرتها “جموع وافرة” كما يخبرنا انجيل لوقا. يفترض أنصار هذه الفكرة ان يهودًا هلينيين ووثنيين، كانوا بالضرورة حاضرين على الجبل، وهذا دليل ليعبر يسوع عن نفسه باليونانية. يشكل هذا الموضوع سببًا للنقد، لكن مسألة استخدام يسوع للغة اليونانية تَتَعَزَز من خلال تنقلاته في مدن صور وصيدا الفينيقية، ومدن ديكابوليس (شرقي الاردن) التي كانت جميعها تتحدث اليونانية في ذلك الوقت. وفي السياق نفسه، يحدثنا انجيل يوحنا (7, 35) عن اليهود الذين كانوا يتساءلون عما إذا يسوع سيذهب لتعليم الجماعات اليهودية الهلينية من الشتات. [“فقال اليهود بعضُهم لبعضٍ: “الى اين يذهب هذا، فلا نقدر أن نَجِدَهُ؟ أيذهب الى اليهود المشتتين بين اليونانيين ليُعَلِمَ اليونانيين؟”].
وأخيرا، يسوع تكلم اليونانية مع قائد المئة ومع بيلاطس. ومن غير المرجح ان يكونوا قد تحدثوا باللغة الآرامية، او العبرية او اللاتينية والتي كانت اللغة الرسمية للإمبراطورية والتي كان يجهلها السكان المحليون.
اما الآرامية، فكانت اللغة المشتركة في فلسطين في القرن الأول. لكن اهل اليهودية، او السامريين او الجليليين، لم يتكلموا بها بنفس الطريقة. في الجليل، حيث هناك يوجد الأماكن المهمة لرسالة يسوع (الناصرة او كفرناحوم)، كان يتم التحدث بلغة آرامية معينة يسميها المختصون بـ “الآرامية الجليلية”. هذا الشيء، جعل من الممكن التعرف على الجليليين على الفور، وهو امرٌ ضروري لأهل اليهودية الذين كانوا يكنون لهم القليل من التقدير. وكانوا يوبخونهم أيضا على ممارستهم الدينية غير الطاهر، وزواجهم، من بعد العودة من المنفى، من “الوثنيين”، وعلى لهجتهم البذيئة. يصفها لنا الإنجيلي متى، على سبيل المثال، اثناء خيانة بطرس الذي تم التعرف عليه بسبب لهجته (متى 26, 73). [“وبعد قليل دنا الحاضرون وقالوا لبطرس: حقًا انت أيضا منهم، فإن لهجتك تفضح امرك”.]. وفي سفر اعمال الرسل (أع 2, 7-8)، بمناسبة عيد العنصرة، كان الحاضرون قد سمعوا الرسل، كل واحدٍ يتكلم بلغة بلده فاندهشوا وقالو: ” أليس هؤلاء المتكلمون جليليين بأجمعهم؟” لأن اللهجة الجليلية كانت معروفة. هذه هي كانت اللغة الآرامية التي استخدمها يسوع بشكل يومي واساسي في رسالته.
الآرامية في العهد الجديد
دعونا نناقش بعض العناصر الجديدة في العهد الجديد والتي ستجعلنا نفهم وبشكل أفضل مكانة اللغة الآرامية في محيط يسوع. منذ البداية، تُروى كلمات يسوع باللغة الآرامية في النصوص اليونانية للأناجيل. ففي انجيل مرقس (5/ 4)، يقول لابنة (يائِير) أحد رؤساء المجمعوالتي عدّت ميتة: “طليثا قوم!“، أي يا صبية أقول لكِ: قومي! كذلك في بستان الزيتون (مر 14/ 36)، يدعو يسوع ولعدة مرات الله أبَّا أي “بابا” بالآرامية. وهذا ما يتيح دله التأكيد على قرب وحميمية علاقته مع الله. كما جاء في متى: “من قال لأخيه: راقا! استوجب حكم المجلس” (5/ 22). وراقا بالآرامية تعني “أحمق او ذو الرأس الفارغ”. كذلك، يسوع يُدعى رابوني أي “معلمي، ربي”، والتعبير بالآرامي لـ “ماران أثا” يمكن قراءته بطريقتين: مارانا ثا (تعال أيها الرب) او ماران إثا (ربُنا جاءَ). اما بالنسبة للمزمور (2/ 22)، الذي ردده يسوع على الصليب: “إيلي إيلي لما شبقتاني”(متى 27/ 46 ومر 15/ 34)، فهي نسخة آرامية من نَصٍ عبري. وهكذا الحال لبعض أسماء الأعلام لأشخاصٍ او لمناطق على مثل بطرس “كيبا، كيفا” الصخرة (متى 16/ 18) او “طابيثة” أي ظبية (أع 9/ 36)، ولكن أيضا جتسِماني “جت سِماني” أي معَصرة الزيت او وعاء الزيت؛ وأيضا الجثلجثة، واخر (ثاء) هي من الآرامية؛ وبيت زاتا وهي بِركَةٌ [لها خمسة أروقة] (يو 5/ 2)، وبالآرامي تعني “بيت النعمة” او “بيت الرحمة”. و”حقل دما” أي “حقل الدم”، ذُكِرَ في سفر اعمال الرسل (1/ 19)، كان ثمن لجريمة خيانة يهوذا ليسوع.
كان انتشار الثقافة الآرامية في حياة يسوع وتلاميذه مهمًا جدًا لدرجة أن بعض التيارات القديمة والحديثة للدراسات الكتابية اعتبرت أن النسخ الأولى من العهد الجديد كانت مكتوبة باللغة الآرامية. وهذا ما يُسمّى بنظرية الأولوية الآرامية. حتى لو كان هناك اجماع كامل بين المتخصصين المعاصرين على كتابة العهد الجديد باللغة اليونانية أولاً، وأن هذه النظرية تشير الى أهمية العنصر الآرامي الذي فُقِدَ أحيانا بين النصوص (النسخ) والتكهنات (التخمينات) اليونانية اللاتينية.
خلاصة القول، كان يسوع الناصري يعرف على الاغلب ثلاث لغات تتناسب مع سياق عصره: اللغة الأم (الآرامية)، اللغة الطقسية والعلمية (العبرية)، واللغة العالمية (اليونانية). ويمكننا وبسهولة ان نفترض أنه كان وبالتناوب يستخدم ثلاثتهن وفقا لاحتياجات خدمته. وهكذا فإن الكنائس التي تصلي باللغة اليونانية تستخدم لغة يسوع، والمسيحيون العبرانيون [أي اليهود المهتدون الى المسيحية] واليهود يصلون بلغة صلاة المسيح. لكن الكنائس الشرقية المعنية تفهم الأمور بطريقة مختلفة. فإنها تريد التأكيد على أن لغتهم الآرامية تتوافق مع لغة يسوع الأم، وهي عموما أكثر حميمية من اللغات الأخرى. هل هذا هو الحال؟ دعونا نتناول بعض الاعتبارات اللغوية.
اللغة الآرامية ام اللغات الآرامية؟
تنتمي الآرامية الى مجموعة اللغات السامية (نسبة إلى سام بن نوح) التي تمّ التحدث بها منذ القدم في الشرق الأوسط وشمال افريقيا والقرن الافريقي. يُقال ان اسم اللغة الآرامية مُشتق من آرام، وهي منطقة تقع في وسط سوريا الحالية بحسب الكتاب المقدس. وتقول التقاليد اليهودية والمسيحية إن اسم هذه المنطقة مشتق من آرام بن سام (تك 10/ 22).
بدأت اللغة الآرامية بالازدهار مع الإمبراطورية الآشورية الجديدة؛ وتم تثبيتها لأول مرة في القرن التاسع وأصبحت لغة العديد من الإمبراطوريات، وكانت وسيلة للتعليم والتجارة والتبادل بين الناس. وصار انتشارها على نطاقٍ واسع من مصر الى باكستان، ما جعلها ذات أهمية عالمية حتى وصول الإسلام. لكن الآرامية لم تكن قط لغة واحدة او جامدة، بل كانت موجودة دائما على شكل لهجات تعدّ أحيانا لغات، تختلف لهجة او تركيبة او مفردات وفقًا للأماكن والازمنة. ويمكننا أن نتناول في بحثنا اللهجة التي تُهِمُنا، أي الآرامية التي استخدمها يهود فلسطين في القرن الأول والجماعات المسيحية ذات التقاليد السريانية الآرامية.
تُشيرُ اللغة الآرامية ـ اليهودية الى اللهجات الآرامية، التي تَحَدَثَ بها اليهود والتي تأثرت بالعبرية، خصوصًا من حيث استعارتها بعض المفردات. من الممكن ادراج عدة لهجات ضمن الآرامية ـ اليهودية، التي عرفت فيها صِيغ شرقية وغربية وذلك بسبب التقسيم الجغرافي لليهود بعد السبي الذين ورثوا هذه اللغة من منطقة بلاد ما بين النهرين. هكذا فإن اللغة (اليهوـ آرامية) المستخدمة في فلسطين تنتمي الى الشكل الغربي للآرامية. يتحدثون هناك بالأخص لغة أورشليم الآرامية أو الآرامية السامرية او الآرامية الجليلية. إن استعراض هذه التفاصيل يسمح لنا وضع لغة يسوع الأم في نطاقٍ أوسع من النطاق اللغوي.
تعود أصول اللغة السريانية الى اللغة الآرامية، وهي مرتبطة بها ارتباطا وثيقَا لكنها ليست لهجة من لهجات الآرامية فقط. فتطورها الادبي وكذلك تطور ابجديتها الفريدة، يعطي لها مكانة لغة مستقلة. تعود أصولها الى اللغة الآرامية في شمال بلاد ما بين النهرين. كرد فعل على اللغة الهلينية المرتبطة بفتوحات الاسكندر الكبير. وبدأت هذه اللهجات الآرامية في سوريا وبلاد ما بين النهرين بالكتابة بها.
تأسست مملكة اوسروين (جنوب شرق اسيا الصغرى) في الرها عام 132 ق.م.، وجعلت لهجتها المحلية، السريانية، لغة رسمية، هذا ساعد في تطويرها وتوحيدها سواء من حيث الأسلوب او النحو او الابجدية. هذا المنعطف وظهور المسيحية، عززا الطابع الفريد لهذه اللغة السريانية داخل كثافة اللهجات الآرامية المعقدة. وكان لمدينة الرها آنذاك دور رئيسي في تطور المسيحية في القرون الأولى، ونُسِبَت لغتها الى الجماعات السريانية، بنفس الطريقة التي تم بها تصنيف اليونان او اللاتين او الأرمن. تمت هناك ترجمة الكتاب المقدس الى السريانية “البشطة” (البسيطة) وكانت في قلب العصر الذهبي المسيحي السرياني، مع القديس أفرام السرياني وغيره من القديسين والعلماء واللاهوتيين. إن الورثة اللاهوتيين واللغويين والليتورجيين لهذه الجماعات يشكلون اليوم الكنائس ذات الصلة بـ “لغة المسيح”، أي الموارنة والسريان الأرثوذكس والكاثوليك والكلدان والآشوريين.
الآرامية ام السريانية؟
على صعيد دراستنا هذه، نلاحظ ان الآرامية الجليلية، على الرغم من انتمائها، كالسريانية الى الآرامية إلا أنها بعيدة قليلا عنها، خاصة وأن الاحرف الابجدية ليست متشابهة تماما، ناهيك عن اللهجات والأدب والمفردات السياقية التي جاءت للانخراط في تطور هذه اللهجات. وأكثر من ذلك، تراجعت الآرامية الجليلية خلال القرون الأولى للمسيحية، بينما تطورت السريانية على مدى ألفي عام ولا تزال حية لدى معظم الطوائف، ما يضفي عليها طابعًا خاصًا واصيلا. لكن هذا الاختلاف بين اللغتين ليس قليلا، لأنه لا توجد لغة سريانية واحدة.
تم فرض المبادئ الأدبية للغة السريانية وضبطها من قبل النسخة الكتابية الـ “بشطة”، وكذلك من خلال كتابات مار أفرام السرياني. ومنذ القرن السادس، شهدت انقسامات كبيرة داخل الكنائس الشرقية (النسطورية، الخلقيدونية “ذات الطبيعتين في المسيح”، والمونوفيزية “ذات الطبيعة الواحدة في المسيح”)، حيث تم التمييز بين استخدامين للسريانية: احداهما شرقي والآخر غربي (حتى بالنسبة لكنائس ما بين النهرين). من حيث اللغة الأدبية، هناك أرضية مشتركة، والفرق بين السريانية الشرقية والغربية يكمن في حروف الهجاء (الابجدية)؛ نطق بعض الحروف الساكنة؛ وحروف العلة السائدة في الكلمات التي تكون بشكل أساس من (ألپ) أولا و (واو) ثانيا. تصبح الأمور أكثر تعقيدا عندما يتعلق الامر باللهجات. لهجة السريان الشرقيين تسمى سورث (لغة، كلام). ولا يزال يتحدث بها العديد من الكلدان والاشوريين في العراق وجميع انحاء العالم. واحتكاكها بالعربية أضاف عليها بعض المفردات. والـ طورويو (الجبلي) هي لهجة سريانية غربية، يتحدث بها عادة في منطقة طور عابدين في تركيا الحالية. ولا يزال يتحدث بها عدد من السريان الأرثوذكس وتتضمن مفردات تركية. هناك لهجة سريانية أخرى يتكلم بها في ثلاث مدن في سوريا والمعروفة بمعلولا، ومعظمهم من المسلمين.
هل نصلي بلغة يسوع؟
هذا الكم من المعلومات يستلزم خلاصة. “الآرامية مجموعة من اللغات واللهجات شديدة الغنى والتنوع. كان يسوع يتكلم بصيغة او نوع من الآرامية ـ اليهودية (اليهوـ آرامية) الغربية، تسمى الجليلية. الكنائس المعنية بمقالنا اليوم، تتحدث اللغة السريانية كلغة رسمية”، وهي صيغة مسيحية بحتة تختلف عن الآرامية، تكونت كلغة انطلاقًا من مدينة الرها. في طبعتها الشرقية، الأدبية واللغوية، لا تزال السريانية الأدبية في صيغتها الغربية، هي اللغة الطقسية والتقليدية للموارنة والسريان الأرثوذكس والكاثوليك. لكن لهجتها لا يتحدث بها إلا السريان الأرثوذكس وقليلاً جدًا من الكاثوليك. اما الموارنة فلم يتحدثوا اللهجة السريانية لعدة قرون ويستخدمون السريانية في الليتورجيا فقط، وبشكل عام بنسب ضئيلة للغاية. وعلى عكس الكنائس الأخرى، اختار الموارنة اللغة العربية منذ عدة قرون.
وإذا ما عدنا الى السؤال الأول المطروح في المقدمة: هل الكنائس الشرقية ذات التقليد السرياني تصلي او تتكلم لغة يسوع المسيح “الآرامية الجليلية”؟ بعد ان قَدَمتُ هذه المعلومات، اترك لك، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، الإجابة بنفسكم على السؤال.
يعرف تلاميذ يسوع الناصري أن اللغة التي تكلم بها معلمهم، هي تلك التي تستطيع الخليقة كلها فهمها، وهي لغة [المحبة]. وهي محفورة في قلوب البشر مهما كانت ثقافاتهم، ابجدياتهم، تقاليدهم او اديانهم. ولا داعي للذهاب الى أي مكان لسماعها، لأنها أقرب إليك من نفسك. وبقدر ما تصمت كل التعابير واللغات الأخرى، تصبح هي مسموعة، وتَهَبُ نفسها لتظهر من خلالها عظائم رحمة الآب.
تمسك قديم بالهوية السريانية
في هذا المقتطف المنشور بالفرنسية في العدد 168 من نشرة منظمة“مدارس عمل الشرق” Œuvre des Écoles d’Orient، التي يعود تاريخها الى أيلول 1888، عرض المطران قندلفت Mgr Kandelafte، أسقف السريان الكاثوليك، توضيحات عن العالم السرياني، موضحًا احتياجات كنيسته.
من المناسب قراءة المقال الخاص بلغة يسوع، في الصفحة 24 من ذلك العدد، لإلقاء الضوء على هذا النص. نلاحظ على الفور استخدام تعبير “سوري” بمعنى “سرياني”. وحتى لو كان التعبيران مترادفين قابلين للتبديل، فإننا سنتجنب حاليًا الخلط بينهما لعدم جرح مشاعر جمهورية سوريا العربية. وبالعودة الى النبي إبراهيم، وذِكر أصول “السوريين” المتعددة، يُدرج الأسقف لغتهم في فئة “اللغات السامية”، ويعتبر أنها كانت “اللغة التي استخدمها سيدنا يسوع المسيح لإعلان البشرى السارة (الانجيل)، ولغة الرسل والتلاميذ”.
مقتطف من النشرة: “إن لغة السوريين […] تتشرف بأنها اللغة التي استخدمها ربنا يسوع المسيح لإعلان البشرى السارة، […] وتأسيس اسرار الشريعة الجديدة، التي تعطى بالبداية باللغة الآرامية، السريانية القديمة، والتي كانت اللهجة الشائعة لرسل وتلاميذ الرب”.
*الاسقف قندلفت، مطران سوري من طرابلس والنائب البطريركي على بيروت.
مع ذلك، فإن المطران قندلفت كان على علم بتطور اللغة الآرامية، ولهذا السبب يُميز “السريانية القديمة”، التي تتوافق مع لغة يسوع، عن السريانية الخاصة بالكنائس التي تنتمي الى هذا التقليد. ويفصل بين هذه الكنائس: “النساطرة، الموارنة، الملكيين واليعاقبة” “. حيث ان لغتهم أكثر حداثة، مع الاخذ بالاعتبار بعض طوائف الكاثوليك المشتقة، كآشوريين، كلدان،
موارنة، روم ملكيين ارثوذوكس وكاثوليك وسريان ارثوذوكس وكاثوليك. تم ذكر الملكيين لأن طقوسهم كانت في الأصل باللغة السريانية: “وبسبب خضوعهم لأباطرة الشرق تبنوا حوالي القرن العاشر، ليتورجية القسطنطينية”.
هذا المقتطف هو مثال يُبين أن تمسك بعض الجماعات [الكنائس] بهويتها السريانية واستمرارها الثقافي واللغوي مع المسيح ليس ظاهرة حديثة. يعود تاريخه الى ما قبل القرن التاسع عشر.
أنطوان فليفل
بالأرقام بعض التواريخ الرئيسية
ـ القرن الثامن ق.م: أصبحت الآرامية لغة مشتركة لشرق البحر الأبيض المتوسط.
ـ القرن الرابع ق.م: ألكسندر الكبير يفرض اللغة اليونانية على المناطق المحتلة؛ تظل الآرامية هي اللغة الرئيسة في الشرق الأوسط.
ـ 538 ق.م: العودة من السبي في بابل، تحل الآرامية محل العبرية عند بعض اليهود.
ـ 132 ق.م: في الرها، اصحبت السريانية المُستمدة من الآرامية لغة رسمية.
ـ القرن السادس الميلادي: انشقاقات كبيرة في الكنائس الشرقية. ظهور استخدامين للسريانية الشرقية والسريانية الغربية.
كاتب المقال أنطوان فليفل
لبناني فرنسي، حاصل على شهادتيّ الدكتوراه في الفلسفة واللاهوت وهو أستاذ منتسب في جامعة القديس يوسف في بيروت ومدير المعهد المسيحي للشرق الذي تأسس في حزيران 2020. وفي عام 2011 أسس مجموعة الفكر الديني والفلسفي العربي التي يديرها في دار نشر هرمتان.