لم يُسمع قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بنظام تقاعد الكهنة، ولا حتى نظام صرف الرواتب الشهرية للكهنة عموماً؛ لانه لم يكن هناك اهتمامٌ لحياة الاساقفة والكهنة المادية. ربما لقلة الموارد الكنسية، ولعدم وجود نظام يضمنُ كرامتهم، وكانت حياة الكاهن مثل بقية الناس يعمل في الكرم والحقل والمزارع وحراثة الارض، او نسج الملابس يدوياً، ولم يكن هناك سنٌ محدد للتقاعد، وانما كان الكاهن يقوم بعمله الى حين عجزه عن القيام بالخدمة، فينعزل مع عائلته في منزله حتى يوم رحيله، وكذلك الاسقف، حاله حال الكهنة. ودارت الايام والسنين على هذا المنوال، الى ان تطورت الامور وتوسعت مِهام الكهنة وانحصرت في محيط خورنتهِ، لذلك اصبح من الضروري التفكير بحياة الكاهن، الى حين انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينات من القرن الماضي. لقد جاء في مرسوم المجمع( في مهمة الاساقفة الرعائية في الكنيسة) في الفقرة ٣١ عن تعيين الرعاة ونقلهم وعزلهم "نص المجمع: ان الرعاة الذين يحولُ كبر سنهم او اي سببٍ اخر خطير دون قيامهم بوظيفتهم كما ينبغي، وبوجهٍ مثمر، فانهم مدعوون بالحاح الى ان يتخلوا عن منصبهم من تلقاء انفسهم أو بناءاً على دعوة الاسقف الذي يجب ان يوفر لهم حياة كريمة".
ان نظام قانون تقاعد الكهنة هو صائبٌ ومُنصف؛ لانه مبدئياً كل انسان بحاجة الى استراحة بعد سنين طويلة من العمل الجاد، وقد يكون التقاعد مكافاة للكاهن ليتصرف بحياته بحريةٍ تامة، ثمّ لترك المجال للكهنة الشباب بعد تدريبهم رعائية عدة سنوات تحت ايدي الكهنة الكبار؛ كي ينالوا على تجربة تحمُّل المسؤولية كما تنص القوانين الكنسية، رغم ذلك لم تُحدّد القوانين العمر القانوني، فقيل انه ٧٥ سنة او المرض او العجز، ولم يحدد القانون ايضاً مكان سكن الكاهن او الاسقف بعد التقاعد، ان هذا الموضوع مهم، لانه أخذ يُطبق على نطاقٍ واسع في الكنيسة الكلدانية على الاقل، والمستقبل القريب سيشهد تقاعد الكهنة وحتى اساقفة كثيرين لبلوغهم السن القانوني. ان القوانين قد تبدو واضحةً بعض الشيء، ولكن الواقع يختلف بالممارسة، مثلاً لازال الكثيرين من الكهنة الشباب يعملون ويعينون كخوارنة في الكنائس…..، وبعض الكهنة وحتى الاساقفة لا زالوا يعملون في ابرشياتهم وخورناتهم بعد بلوغ السن القانونية بالاتفاق مع رئاساتهم، والبعض الاخر تُمدد سنوات خدمتهم الى سنوات اضافية، والبعض الاخر يسمونهم كهنة مستشارين والبعض الاخر انسحبوا ليسكنوا مع اهلهم، هذا هو الواقع.
من هو الكاهن المتقاعد؟ اولاً، الكاهن المتقاعد هو ذاك البطل الذي ضحّى بشبابهِ وحياته من اجل رعيّته مدةً لا تقل عن خمسين سنة، حاملاً وزرَ رعيّته ساعياً في بنائها وتقدمها فكرياً وعمراناً ونشاطاً رغم الصعوبات، ثانياً، هو ذاك الجندي المجهول الذي لم يعُد يُذكر اسمه وكانه قد رحل وتوارى عن الانظار وأسدل الستارة عنه، لان الذي يخلفه ينسف معضم ما قام به سلفه، ومن جهةٍ ثانية الكاهن هو رجل صلاة؛ لان له متسعٌ من الوقت وخاصة بعد تقاعده، فهو لا ينسى صلاته الليتورجيا وصلاة المسبحة اكراماً للعذراء مريم، وهو رجُل تأملات ومطالعة لاهوتية و رعائية، والإطلاع على كل جديد. الكاهن بنوعٍ عام هو كاهن للمسيح، وخادمٌ امينٌ وراعٍ هميم ذو همة يقود رعيته الى المراعي الخصبة، بتوجيهاته الابويّة، فهو الراعي الصالح كما يقول يوحنا (يوحنا١٠/ ١٠-١٤).
ملحق، لحياة الكهنة المشتركة
لم ينجح مشروع عيش الكهنة المتقاعدين المُشيّد ضمن حدود ارض المعهد الكهنوتي في مقر البطريركية الكلدانية الصيفي في عنكاوة سنة ٢٠١٥، والسبب كما اعتقد ان التجربة حديثة، لم يتوفر في هذه المنشأة وسائل كافية كما في لبنان مثلاً، ثم اعتقد ان الحياة المشتركة صعبةٌ بحد ذاتها؛ لاختلاف المزاج الشخصي والطباع ونوعية العيش.
السبب في فشل الحياة المشتركة يعود الى سنوات الخدمة التي قضاها الكاهن في خورنته لوحده، وتأقلمه مع نمط حياته، اذ لو كان كل مجموعة من الكهنة يعيشون سوية في دارٍ خاصٍ للكهنة، لكان من السهل تأقلمهم اكثر سهولة إبان التقاعد، وقد تكون الحياة المشتركة وسيلة للحفاظ على نقاوة الكهنوت اكثر مما يعيش في منزله او مع اهله، ومن جهة اخرى انزواء الكهنة المتقاعدين عند اهلهم هو لعلاقتهم مع افراد اسرتهم؛ ربما لانهم يرتاحون في احضانهم اكثر من العيش مع غيرهم من الكهنة؛ و ربما لا يريد الكاهن ان يساهم في مشروع الحياة الكهنوت المشتركة. ومن له اي اقتراح يُغنينا، عليه ان يضيفه على ما تقدم.
سيأتي ذكر راتب الكهنة المتقاعدين في مقالٍ اخر عن رواتب الكهنة بشكلٍ عام.