17 كانون الثاني تاريخ لايمكن ان انساه... سلام توفيق
لا شك بان كل واحد منا عانى ما عاناه من تبعات "تحرير الكويت" المؤلم ونستذكر جميعنا المآسي والالام منذ 8/2 وما ترتب على هذا العمل ولا نزال.
لنقدّر ونشكر الأخ العزيز سلام توفيق أبو باستيان على نشره تذكيرا موثقا لما تحمّل "نصيبه منه" وهو نزر يسير مما عاناه كل فرد عراقي او كويتي.
أنشر هنا النص المنقول من موقع "كرملش منبر العراقيين" وكما نشره هو بثلاثة أجزاء: جرجيس
كرملش منبر العراقيين
17 كانون الثاني تاريخ لايمكن ان انساه... سلام توفيق
قصة حقيقية من ايام الحرب كتبتها قبل 8 سنوات الشاهد فيها صديقي بولص كوما كذيا من بغديدا – قره قوش
انتهينا من حفر حفرة بعمق متر وطولها مترين تقريبا اما عرضها فكان حوالي متر ونصف ... قلت لزميلي بولص من قرقوش لم نعد نقوى على الحفر اكثر من ذلك الارض صلبة جدا وقد ازف الغروب لنكمل ملجئنا بالحجار لنرفعه عن الارض بحيث يمكننا ان نقف منتصبي القامة فيه ... اتينا بالاحجار ورصفناها بشكل هزيل لانظامي ثم وضعنا مشمع من الجلد (كليم) في الاعلى وثبتناه من الاعلى بمزيد من الاحجار ...
الان اكتمل ما يشبه الملجاء الذي يمكن ان يتهاوى في حال اي شدة خارجية بسيطة... كل مانريده هو ان لاننام في العراء تماما... بحثنا عن اية كسرة خبز نكسر بها جوعنا ... وجدنا بعض الصمون المتعفن والذي نبتت داخله حبات شعير كاملة لم تطحن كصاحباتها بسبب العجلة... لايهم ابو خليل يمكن ان ياكل حتى الصخر لو اشتد جوعه...
جاءنا امر الرعيل ملازم اول مجند اسمه سالم وهو مدرس من اهالي زمار... كان شديد القلق والهلع... سالته ماذا نعمل لو هوجم مقر الفرقة 45 التي تتواجد داخل القلعة الرهيبة او تم انزال مظلي امريكي عليها ونحن سرية دبابات سلمونا هياكل لا تعمل الا بقدرة القادر الجبار وحده ... وحتى لو اشتغلت فهي مزودة ببضعة قذائف ضد الدروع فقط... حتى اسلحة شخصية ليس عندنا لحد اليوم !!! اجاب وهو يتلعثم من البرد والجوع والخوف : الله لايگولها ...
حل الظلام وعمّ السكون وانعدمت دلائل الحياة... حتى من كان قد حصل على سيكارة كان ينفرد بها بعيدا ويدخنها لوحده بتلذذ لافّا اصابعه حول جمرها خوفا من ان ترصدها طائرات العدو التي تصول وتجول وحدها في سماء المعركة قبل وقوعها.
تمددنا في تلك الحفرة ولم تكن الساعة قد شارفت على التاسعة مساءا ... قال بولص هل تعتقد ان بوش سيقصفنا فعلا لان المدة التي حددها لانسحاب العراق من الكويت انتهت امس 15-1-1991... قلت له اكيد سيضربون ولكن سيدمرون بغداد وليس الجيش في الجبهات لانه منتشر في صحراء طويلة يصعب ضربه بدقة ...
مع مرور الوقت ازداد الظلام حلكة والصمت الرهيب حولنا يزيد الموقف رعبا وسوادا... كلما انتبهنا على صوت اقدام بشرية او غيرها نمد يدينا لنهيء القضيب الحديدي (هيم) لندافع به عن انفسنا من الحيوانات الضارية ...قلت ل بولص لاتكن شكوكا كثيرا لا اعتقد ان الحيوانات الضارية قريبة منا لان المنطقة دبت فيها الحياة منذ اسابيع بعد قدوم الجيش لها ثم انها لن تجد فضلات طعام هنا لاننا اصلا بلا طعام وننافسهم على البقايا والمخلفات...
ضحك زميلي قائلا ... الا تذكر ماذا قال سائق سيارة اللاندكروز التاكسي الذي اوصلنا من السماوة الى قضاء السلمان...لقد نصحنا بعد ان عرف اننا من الموصل وحذرنا من الذئاب الكاسرة والواوية التي تهيم ليلا بحثا عن فرائسها ...بل اكثر من ذلك انها تحاول الهجوم على السيارات المارة في الشارع لانها جائعة جدا بسبب ندرة القنائص والفطائس في تلك الصحراء... شنو مو يمي ...استطرد قائلا
قلت ...افكر في تلك القلعة الرهيبة التي ذرعتها شبرا شبرا...انها شيء خيالي لم يدر بخلدي يوما انني ساكون في وسطها...يا الهي انه كابوس مرعب ... سلسلة سجون داخل السجن تفصل بعضها عن بعض بابواب حديدية ... يثير صوت صريرها الرهبة في النفوس... والاكثر ايلاما تلك الذكريات المكتوبة والمرسومة على جدران غرفها القاسية في الداخل...ذكريات لاناس فقدوا الاحساس بالحياة واصبحوا يتمنون الموت تمنيا... والله لقد بكيت حينما عثرنا على لهايات ولعب الاطفال البلاستيكية... يا الهي انه شعور رهيب ...اطفال صغار يولدون ويعيشون في هذا القفص الحديدي البارد!!!
كفى لاتسترسل ارجوك لقد قتلني الشوق والحنين لاهلي ولاولاد اخي الصغار رغم اننا لم نلتحق الا قبل اسبوعين ولا اعرف ان كنت سالتقيهم ثانية ...
الا تفكر بالهروب مرة اخرى انت لم تلتحق ولم تنتظم في الخدمة منذ استدعائنا للاحتياط في 5-8-1990 ...
قلت له بالتاكيد سافعل في اقرب وقت ليس جبنا فانا في حرب ايران خدمت 5 سنوات في كتيبة دبابات فعالة وشاركت في معارك كثيرة ومعروفة ولم اهرب ولكن الان الامر مختلف انها جنون مطبق ... جوع يقتلنا ... والاهم اننا وقود لمعركة قادمة...هل يصدق العاقل اننا سنحارب امريكا وحلفائها وننتصر عليهم ونحن بلا عتاد ولا سلاح شخصي حتى...
قال لماذا اذن وضعونا هنا...؟؟
قلت نحن لسنا الا كبش فداء لاقيمة له لان المهم عندهم ان يبقوا الحرس الجمهوري في الخلف للمعركة الحاسمة ... اسمع يجب ان يبقى احدنا مستيقظا والاخر ينام وهكذا لحد الفجر...نام انت الان ساوقظك بعد ساعتين...
كانت الساعة عندها قد شارفت على الثانية عشرة ليلة 16-17 ك 2 1991 ... مرت علي الساعتين وكانها دهرا وحتى بولص كان يتقلب ولكني كنت اشعر انه ليس نائما فالبرد والخوف والقلق والجوع والحنين تقتل النوم ...
ربتت على كتفه ... بولص اگعد صارت ساعة 2 ...
مددت جسمي المرهق على مايشبه الفراش ...ورحت في مايشبه الغيبوبة وكنت قد قررت الا انهض ثانية حين ينتهي واجب زميلي حتى لو اصبحنا فطورا شهيا لابو سرحان!! حلمت باصدقائي واهلي وفراشي الوثير وقدح الشاي الذي اعشقه!! وحلمت كثيرا ولم يقطع سلسلة احلامي الا صوت رهيب رفعني عن الارض ثم اعادني لها مرة اخرى ثم انهالت الاحجار على اجسامنا ورؤوسنا ولم يحميها من التمزق الا ذلك المشمع الجلدي الذي اصبح حاجزا بين الاحجار التي انهالت علينا وبين اجسادنا التي تعرضت لرضوض وخدوش غير خطيرة!!
كان بولص يئنّ بشدة من الالم ...قلت له هل انت بخير؟...قال لا اعرف لا اعرف طلعني بسرعة ...
كان المنظر مضحكا مبكيا وانا استخرجه من تحت الاحجار...قلت له مو گتلك لاتخلي حجار كبار!! تفحصته كان سليما ولكنه تاذى اكثر مني لان شدة السقوط كانت من جهة تواجده!! كل ذلك حصل بعد سقوط اول صاروخ قادم من الطائرات الامريكية وقع على بعد عشرات الامتار من حفرتنا تلك
تعالت اصوات الصراخ والعويل وتوالت الضربات !! جنود يصرخون انضرب المقر قصفوه .. فلان استشهد خطية .. الجرحى هواية .. سووها والله ..
جاء ملازم اول سالم الذي كان ينام في حفرة ليست بعيدة كثيرا مع ضابط اخر من الموصل ..كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف صباحا .. كان لايقوى على الكلام .. اراد رفع معنوياتنا بغباء ..قال:
لاتخافون هاي ممارسة يجوز بالفرقة!!
قلت له سيدي دمروا مقر الفرقة واستشهدت ناس واتملخت ناس وتكوللي ممارسة؟؟!!
كان الخوف قد امتد به وبنا الى ما لا يمكن وصفه فنحن تحت رحمة طيران قاسي ومتمكن ومحترف لايجد من يرفع راسه ويرميه بطلقة واحدة!! لم يكن امامنا الا اللوذ في تلك الحفر البائسة حتى طلوع الفجر
مع امتداد اشعة الشمس تراءت لاعيننا حجم الدمار الذي خلفه القصف !! عدد كبير من الشهداء والجرحى وخسائر مادية كثيرة .. اذن بدات الحرب وستستمر حتى خروج الجيش من الكويت .. وقفنا مذهولين ننظر الى بعضنا البعض ونحن لا نجراء ان نصرخ متى سيتوقف هذا الجنون .هذا الانتحار ..هذه المعركة الخاسرة ..هذا الكم الهائل من دماء الشباب .. لم نفق من صدمتنا الا بصدمة اخرى .. اوامر حركة ..لقد قررت القيادة نقلنا الى قاطع البصية والانتشار باتجاه منطقة حفر الباطن ..
انها كارثة اخرى ..سيتم نقلنا على ظهور ناقلات الدبابات (فاونات) الثقيلة الحركة والقليلة المرونة وستكون صيدا سهلا لطائرات العدو!! شبح الموت سيبقى يلاحقنا!!
وللقصة جزءان آخران انتظروها قريبا...