سمعت بمرضك ورقودك في المستشفى ، وتمنيت لك الشفاء ، غير اني لم اكن اتوقع سماع خبر رحلتك الابدية.
آه يا ابونا القس فرنسي ، والف آه على اختفائك من بيننا ، غيابك سيترك فراغا لا يمكن لاحد ملأه لانك كنت فريداً من نوعك.
قد يستغرب الكثيرون ويقولون لماذا يكتب هذا الانسان بالذات عن القس فرنسيس. جوابي هو بانه ، وحسب قناعتي أنا ، لا احد يعرف القس فرنسيس في بداياته مثلما عرفته انا ، والذين كانوا يعرفونه اكثر مني او يكادون ، قد رحلوا. لقد عايشتُ القس فرنسيس منذ بداية رسامته ، اذ بالرغم من كوني طفلا ، حظرتُ مع الاهل رسامته في الموصل . كنتُ قريبا منه جدا وكنت ألحظ فيه ما لا يجلب انتباه غيري.
كان القس فرنسيس شابا بهيّ الطلعة كلّه حماس وغيرة في إداء مهامه الكهنوتية وفي أخلاقه الدمثة ووداعته . كان يحبّ الناس ولا سيما الشباب وهؤلاء قاطبة كانوا يبادلونه نفس الشعور، بل كان يسحرهم بكلامه وابتسامته . كان يعلمهم العابا جديدة ويشاركهم فيها ، وينظم لهم سفرات في المنطقة حيث الجبال والتلال والوديان واماكن قريبة خلابة اخرى.
لقد عرفتك يا قس فرنسي شخصا مثقفا جدا ، وهذه الظاهرة أركّز عليها واكرّرها ، لانها كانت تميزّك فعلا عن زملائك . لم يكن يظهر كتاب جديد في مجال الدين أو التاريخ أو غيره ، إلا وكنت قد قرأته ، وجلّ مطالعاتك كانت باللغة الفرنسية . كان لك قابلية سرد هائلة ، وكنت تقوم بذلك باسلوب شيق جدا يسحر سامعيك. أقولها دون تردد باني لم اصادف رجل دين ، أيا كانت درجته ، بمثل ثقافة واطلاع القس فرنسيس .
كان للقس فرنسيس شخصية قوية تمكّنه من مقابلة المسؤولين والآغوات ، ورؤساء الاحزاب . لقد امضى اياما عصيبة في شقلاوا إذ كان عليه الحفاظ على علاقة متساوية بين الاضداد ، ايام الحركة الكردية . كان يأتيه في الليل قوم ، وفي النهار قوم مناوئ ، وكان كاهننا يُساير الطرفين بصدق وموضوعية ودبلوماسية ذكية .
اعرفك يا قس فرنسيس اكثر من غيري ، لاني ارتديت زيّ الاكليريكي في سنة 1957 ، وكنتَ قد احتضنتني أنتَ من ذلك التاريخ كطفل صغير ، فكنتُ امضي جلّ اوقاتي معك ، وبحكم قرابتكَ مع جديّ ، كنتَ تمضي معنا الكثير من اوقاتك في مهندسخانة .
اتذكرك وانت تقابل الاجانب من انجليز وفرنسيين ، وكنت تحادثهم دون اية صعوبة . كان الاجانب معجبين بثقافتك ، وحتى فيما بعد عندما كنت تأتي الى فرنسا ، وكنت تلتقي بأصدقاء فرنسيين ، كنتَ تترك لديهم اثرا عميقا في سعة آفاق أفكارك، والكثيرون منهم كانوا يُبدون إعجابا بما كنت ترويه وبالطريقة التي تقوم بها ، وبالعمق الذي كنت تصل اليه في مواضيعك . كانت الفلسفة بالنسبة لك مجالا تتناولها بسلاسة فائقة، وكنتَ تعزّز كلامك دوما بسرد الكاتب الفلاني وما قاله بدقة تامة .
كان يقول عنك احد الاباء في معهد مار يوحنا الحبيب عندما كنتَ تلميذا ، بانك كنت خارق الذكاء ، وكنت تستخدم ما تتعلمه في الفرنسية في انشاءاتك في نفس اليوم. كنت تحب الفكاهة وهذه ايضا دليل آخر على الذكاء .
الأهم من كل ما سبق ، كنتَ يا قس فرنسيس زاهدا في الحياة ، وكنت ترضى بالحد الادنى الكافي للحياة ، لان سياستك الدينية كانت خدمة الرعايا مجانا ، مؤمنا بمقولة المسيح الذي قال : مجانا اخذتم مجانا اعطوا . حتى اني كنت احضر مشادات معك من بين ذويك يلومونك في هذا الموضوع ويقولون لك : جميع الكهنة يتقاضون اجورا للخدمات التي يقدمونها ، انت لماذا تمتنع عن هذا ؟ فكان جوابك ابتسامة مع القول : اني اخدم المسيح وانا حرّ.
فعلا لم تكن تحب المال الا بالقدر الكافي الذي تحتاجه وكنت في كثير من الاحيان توزع الفائض على من يحتاجون ، كنت دائم الاستعداد للعطاء.
خلال سني خدمتك ، اذا كان في اربيل او بغداد ، كنتَ محطّ انظار رعاياك وحبهم الشديد لك. من جهة اخرى كنت متجردا ولا تحب المناصب، وانا اعرف بانك رفضت اقتراحا لتبوء منصب مطران البصرة في حينه ، واقول هذا لانك كنت قد استشرتني بذلك وانا في بغداد . كنتَ تحب الحياة البسيطة والتفرغ للمطالعة لانك كنت فعلا تستلذ يما تقرأه ويحلو لك اشراك الاخرين بما تتطلع عليه. .
كنتُ أحب صوتك الهادئ الرخيم ، وكان فعلا صوتا تتميز به ، ولحد هذه الايام عند سماعك كنتَ تعيدني الى البدايات الجميلة .
اقولها بصراحة ، لم اصادف مثلك ايها القس فرنسيس ، لانها قابليات وتربية واخلاق ودراسة .
لا يسعني احتواء ما يقارب تسعين سنة من حياتك ، لان كل يوم ، وكل لقاء ، وكل حديث ، وكل احتفال ، كان لك طابعك الخاص .
نم قرير العين يا ابونا فرنسيس ، ستبقى حيا في اذهاننا وفي اذهان كل من عرفوك والى الموت ، رحمك الله ايها الراحل العزيز.