الاسبوع الاخير من الصوم، زمنٌ نحتاج اليه
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
زمنُ نحتاج اليه
في زمنٍ إنحرفت فيه المبادئ، وتَغلَّبت المصالحُ على الاخلاق، وحُلِّل الحرام، وشُرّع الفساد، نحن بحاجة ماسَّة إلى يسوع ليُخبرنا عن الحقيقة، والمحبة، والخير، والكرامة والنعمة. انه يعلمنا كيف ينبغي أن نكون to be، وليس كيف يمكن ان نملك to have! نحن بحاجة الى هذا الأسبوع الأخير من الصوم لنصفّي عقولَنا، وقلوبَنا، ونعود الى أصالة ايماننا، فنغرف بشغفٍ هذا الروح إيماناً ونوراً من المنبع الحي الذي يمثله يسوع في حياتنا. نحن ممتنون منه.
قبل كلِّ شيء، يلتفت انتباهنا إلى أن يسوع كان يُدرك ما ينتظرُه بانطلاقه الى أورشليم – القدس، فهو الذي استهلّ رسالته في الجليل، ها هو يُنهيها في اورشليم، لتنطلق مُجدَّداً منها الى العالم أجمع. وإذ شعر بتحشيد اليهود من أجل تصفيته جسديّاً، شرع يكثّف تعليمَ الرسل واعدادَهم لبداية مرحلةٍ جديدة.
والحال فإن تأملَنا في محطات هذا الأسبوع الأخير من الصوم بحياة يسوع، ينبغي ألّا يكونَ مجرد احتفال تقليدي عابر، بل ان يكون وجدانيّاً، أي أن نَعي ان ملكوت الله يتطلب منا قبولاً (إيماناً) وتسليماً مُطلقاً للذات بشجاعة وأمانة وبثقة تامة. وحتى يظلّ المسيح حيّاًّ ومؤثراً في داخلنا، يتعيّن ان يجتهدَ كلُّ واحدٍ منَّا للدخول الى ملكوته، عبر التوبة التي يُفترض ان تتحوّل الى إصلاح حقيقي بالاهتداء، والتغيير، والاندماج.
كنيستنا الكلدانية “لها تراث كنسي مميّز”
بمناسبة هذا الأسبوع المقدس، وإذ تعيش كنيستنا الكلدانية أوضاعاً صعبة هي بمثابة “درب الصليب”، أدعو كهنتها ورهبانها وراهباتها وبناتها وأبناءها، الى أن يكتشفوا في قلب الآمهم ووجدانهم، معنى هذه المحطات الأساسية في حياة يسوع، ليؤسّسوا حياتهم عليه، ويعيشوها كما عاشها هو بنفس الحقيقة والشجاعة، والثقة، وكما عاشها آباؤهم وأجدادهم وشهداؤهم. أحثّهم على التمسك بهويتهم وكنيستهم، بيت المحبة لهم، ولا يسمحوا لأحد أن يفرّقهم، بل على العكس ليكونوا جسراً من أجل الأخوّة والوحدة والسلام.
محطات حياة يسوع الاخيرة “أساس العهد الجديد”
السعانين “يسوع هو الهيكل الجديد”
الهيكل هو مركز العبادة الأعظم لليهود، ويسوع بطرده الباعة منه، يُعطيه معنى آخر. انه يشير الى الهيكل الجديد، الهيكل الأواخري eschatological، الذي هو يسوع نفسه. فقد وهبَ حياته في الموت، قرباناً من أجلنا. الشعب المختار لم يكن مختاراً من أجل نفسه، بل ليشهد للعالم على محبة الله ورحمته وغفرانه. وهكذا الكنيسة هي للناس كلهم.
العشاء الأخير “اصنعوا هذا لذكري” لديمومة حضوري
الاحتفال بالعشاء الفصحي هو أهم مناسبة دينية وقومية في التقويم اليهودي. والعشاء الفصحي السنوي استحضارٌ لخروج العبرانيين من عبودية فرعون مصر. هكذا يُعطي يسوع باحتفاله إشارة واضحة الى ولادة اسرائيل جديد، جماعة جديدة، تتأسّس على رسلِه الاثني عشر، ومنفتحة على العالم كله.
يفسّر يسوع معنى كسر الخبز: “هذا هو جَسَدي”، أي حياتي كلها من أجل العالم. ويدعو المؤمنين (الكنيسة) ليتحوّلوا الى جسده “إِصنَعوا هذا لِذِكْري” (لوقا 22/ 19). وهكذا الكأس “هذا هو دَمي الذي يُهرق من اجل كثيرين (مرقس 14/ 24). إنه دم العهد الجديد. كلمات لا ينبغي ان نتعود عليها أو ننساها!
بدم يسوع (بموته) يجدد الله عهده مع البشر. وإنجيل يوحنا لا يذكر وجود الحَمَل التقليدي (الخروف) في العشاء الأخير، لأن يسوع هو الحَمَل الفصحي الحقيقي!
في هذا العشاء – الافخارستيا، هذه الهدية العظمى، يشير يسوع بقوة الى الرجاء. هذه المائدة التي يجمع حولها تلاميذه، ستصبح المركز النهائي لعائلته الجديدة – الكنيسة، وقلبها النابض لمواصلة رسالته. تناول القربان المقدس يعني أننا في يسوع ويسوع فينا؟ ومن هنا فإن الاحتفال بالفصح هو احتفال بقيامة المسيح.
لنتأمل في الأفخارستيا (القداس) التي نحتفل بها كلَّ أحد، ولربما كل يوم، لا سيما في سنة الافخارستيا التي أعلنها البابا فرنسيس من 3 كانون الأول 2023 الى 3 كانون الأول من هذا العام 2024.
الجمعة العظيمة “الحب الأعظم”
إعدام يسوع على الصليب هو نتيجة بشارته الجديدة. ذلك أن تعليمه يشكل ثورة رفضها اليهود: “أَتى بِجَميعِ هذهِ الآياتِ بِمَرأًى مِنهم، ولَم يُؤمِنوا بِه” (يوحنا 12/ 37). بمعنى اخر: رفض اليهود ملكوت الله، جعله يعطيه لآخرين كما نفهم بوضوح من مَثَل الكرمة والقَتلة: “سَيَأتي رَبُّ الكَرْم ويُهلِكُ هؤلاءِ الكَرَّامينَ ويُعْطي الكَرْمَ لآخَرين” (لوقا 20/ 16). نحن أمام حالة جديدة وتحدٍّ جديد.
تبلغ بشارة يسوع بموته أوجها، فيُقيم الله عهده مع من قَبِلَ بشارة يسوع، لذلك لم ينقطع الخيط مع العهد القديم لان النواة الاولى للكنيسة هم رسله وتلاميذه من اليهود الذين اتبعوه وقَبِلوا تعليمه وقرروا ان يعيشوا معه.
الغفران هو فعل حبّ. انه قربان يقدمه لنا يسوع لتحرير أنفسِنا، ولكي نغفر نحن أيضاً للآخرين كما جاء في صلاة الأبناء( أبانا الذي): “اغفر لنا خطايانا كما نحنُ أيضاً نغفر لِمَنْ أخطأ الينا” (متى 6/ 12). هذا هو معنى موت يسوع من أجلنا.
إذن الخطيئة ليست شأناً فرديّاً، انما للخطيئة عواقب وخيمة على الجماعة: مثل القتل والسرقة وما شابه ذلك.
أحد القيامة” الفرح بان المسيح لا يزال حاضراً بيننا“
حياتُنا هي المسيح القائم من بين الأموات، لأنه “إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ” (1 كورنتس 15/ 14). قيامته هدية ومسؤولية للارتقاء الى حياة جديدة.
كل ما علينا ان نتعلمه هو كيف نكتشف المسيح حيّاً بعد القيامة، لأنه لا أحد من تلاميذه عرفه بعد قيامته بشكل اعتيادي. والانجيل يعرض علينا فقط شهادة بعض الذين اكتشفوه بأشكال مختلفة انه حيّ.
ترائيات المسيح القائم
علينا التركيز على شكل الترائيات واطارها والبلاغات التي يحملها الشهود بحماسة:
مريم المجدلية
نحتاج الى حبّ مريم المجدلية، وإمتنانها، وشجاعتها، لنكتشف المسيح حيّاً، هي التي “غُفِرَت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبَّتْ كثيراً” (لوقا 7/ 47). لقد ظنّته للوهلة الأولى أنه البستاني، لذا سألته: “سيّدي، إِذا كُنتَ أَنتَ قد ذَهَبتَ بِجسدهِ، فقُلْ لي أَينَ وَضَعتَه، وأَنا آخُذُه” (يوحنا 20/ 16). لا أعرف كيف كانت ستقدر ان تحمله! وجاءت المفاجأة – الدهشة، ان يسوع دعاها بأجمل كلمة، بإسمها “مريم”. فعرفته للحال وأجابت: رابوني “يا معلمي” الحبيب!! “مريم”، لا تقدرين ان “تلمسيني” لاني في مستوى آخر من الوجود، اني في مجد الآب! وأنطلقتْ بفرح وسرعة لتخبر التلاميذ. هل يا تُرى نحن أيضاً نخبر الآخرين بإيماننا؟
تلميذا عماوس
تلميذان (لا يقول انهما رسولان)! عائدان مساءً من أورشليم الى قريتهما عماوس، منكسري القلب بسبب ما حدث ليسوع. [يذكر إنجيل لوقا اسم الأول “قلوبا”، ويترك اسم الثاني حتى يكون واحداً منّا. اعتقد انها مريم زوجة قلوبا التي كانت واقفة تحت الصليب كما جاء في إنجيل يوحنا “وقَفَت أُمُّه، وأُختُ أُمِّه مَريَمُ امرأَةُ قَلُوبا” (19/ 25).
في الطريق انضمّ إليهما رجلٌ غريب، أخذ يتكلم عن يسوع، فأنصتا اليه بشغف: “أما كانَ يَجِبُ على المَسيح ان يتحمل كلّ هذه العذابات ليَدخُلَ الى مَجدِه؟” (لوقا 24/ 26). ولما اقتربوا من القرية، ترك لهما الغريب (يسوع) حرية الاختيار. فأصرّ التلميذان، ان يبقى معهما للعشاء في بيتهما أليست هذه دلالة على ان التلميذين هم زوج وزوجة؟). وعند كسر الخبز انفتحت أعينهما، وعرفا أنه المسيح الناهض من القبر (لوقا 24/ 33-34). وعادا بلا خوف إلى أورشليم يخبران التلاميذ. هل يا ترى نحن ايضاً نخبر الآخرين بإيماننا؟
التلاميذ في صيد السمك
رجع بطرس وبعضُ التلاميذ الى عملهم القديم لصيد السمك. واكتشفوا المسيح الناهض من بين الأموات عندما قال لهم “أَلقُوا الشَّبَكةَ” (يوحنا 21/ 1-9). هنا يشير الانجيل الى الرسالة – البشارة: “اتبعوني فاجعَلكم صَيادي بَشَر” (مرقس 1/ 17)، اي ان يسوع حي في كلِّ مؤمن جديد!
على مرّ التاريخ ظهر المسيح لآلاف النساء والرجال والأحداث.
عندما يكون لنا الإيمان والحسّ المرهف نقدر ان نكتشف المسيح الحيّ بطرق مختلفة، في صلاتنا واحتفالنا بالاسرار المقدسة وبشكل خاص بالاحتفال بالقداس (أ ليس حاضراً في سرّ القربان المقدس؟) وأعمال الرحمة: “كل ما فعلتموه بأحد هؤلاء إخوتي الصغار فلي فعلتموه” (متى 25/ 40).
يسوع معنا دائماً حتى في التحديات والصعوبات التي توجعنا. لنتذكر وعده: “هكذا سأكون معكم دائماً الى منتهى العالم” (متى 28/ 20).
المسيح قام، حقاً قام، هللويا
عيد مبارك للجميع