أمراء كرمليس
بقلم : حبيب حنونا
من المعروف أن كرمليس تعرضت الى هجمة شرسة من قبل المغول عام 1236 م كما أسلفنا فقد نالها من التدمير والقتل الكثير، غير إنها أستعادت عافيتها خلال أقل من قرن ، فمنذ نهاية القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلادي اصبحت بلدة ذات مركز مرموق يشار لها بالبنان ، تتمتع بالمناعة والأمن والأستقرار مما دفع البطريرك دنحا الثاني عام 1332 م أن ينقل كرسي بطريركية كنيسة المشرق من أربل إليها ، وقد وصفها ياقوت الحموي المتوفي عام 1229 م بانها " قرية من قرى الموصل شبيهة بالمدينة من اعمال نينوى في شرقي دجلة كثيرة الغلة والاهل وبها سوق عامر وتجار" (28) . وذكرها ابن عبد الحق المتوفي سنة 739 هجري (1338 م) اذ قال "كرمليس قرية شبيهة بالمدينة من اعمال نينوى في شرقي دجلة فيها سوق عامر وتجار كلهم نصارى" (29) ، كما ذكرها ايضا حمدالله مستوفي القزويني بانها "مدينة متوسطة الحجم يبلغ دخلها السنوي 11300 دينار" (30) ، كما جاء ذكرها في كتاب (صبح الاعشى في صناعة الانشا) للقلقشندي المتوفي سنة 821 هجري (1418 م) وذكرها ضمن الامارات المعروفة ، فقال "صاحب كرمليس وهو سحب مسعود ورسم المكاتبة اليه : الاسم "والسامي" ، بغير ياء (31) ، ويقصد بذلك ان من اراد المكاتبة الى امير كرمليس عليه ان يبجل اسمه باللقب السامي . وقد حفظت لنا المصادر التاريخية (32) اسماء عدد من امراء كرمليس في القرن الرابع عشر الميلادى ، ، كما جاء ذكرهم أيضا في كتاب " يوبطخين " – وهو سفر الأحياء والأموات – وهو من أهم مخطوطات مكتبة كرمليس الذي يؤكد " إنهم دفنوا في هذه البلدة المباركة " كما ذكرهم المستشرق الفرنسي ( جان موريس فيي ) في العديد من مؤلفاته وبالأخص كتابه المشهور " أشور المسيحية " (33) وهم :
1. الأمير متي الأول ( أستشهد عام 1291 )
2. الأمير مسعود ( أستشهد عام 1291 )
3. الامير مسعود بك بن عمر (1317 م)
4. الامير ناصر الدين (1358 م )
5. الأمير متي الثاني (1358 م)
6. الامير حسن (1358 م) شقيق الامير متي الثاني
7. الامير بيازيد (1364 م)
8. الامير سلطان شاه (1369 م)
9. الامير نجم الدين (1369 م)
10. الأمير علاء الملك بن سلطانشاه (القرن الرابع عشر الميلادي)
11. الامير سحب مسعود - صاحب كرمليس – (1414 م)
12. الأمير نجم الدين
لقد كان لهؤلاء الامراء التأثير الكبير في الحياة الدينية و السياسية في منطقة سهل نينوى وبالأخص كرمليس وما حولها ، فقد أدوا أدوارا مهمة على كافة الصعد ، وكانت لهم كلمة مسموعة لدى القاصي والداني ، ليس فقط لدى أتباع كنيسة المشرق بل لدى الكنيسة السريانية والكنيسة الأرمنية أيضا . لقد كانوا ينظرون الى عامة الشعب والكهنة من كل الطوائف بعين العطف والرعاية ، فآلفوا بين المتخاصمين وحاربوا الاشرار واللصوص وجعلوا من كرمليس ملجأ آمن و دار خير و سلام لكثيرمن وجوه ذلك الزمان ، فرحبوا بالزوار والاخيار، وساعدوا الارامل واليتامى ، وعمروا الكنائس ودور العبادة . وقد جاء ذكر معظم هؤلاء في مخطوطة ( سفر الأحياء والأموات ) الذي كتب أصلا في دير مار كيوركيس في كرمليس عهد البطريرك دنحا الثاني (1332 – 1364م ) وجدد بإضافة مجلد آخر عليه سنة 1671 م والمعروف بإسم (يوبطخين) ، وقد كرمتهم كنيسة المشرق ووضعتهم في مصاف الشهداء والقديسين ويتم ذكرهم في الطقوس الكنسية بالمناسبات والأعياد ، وقد جاء في كتاب " رتبة القداس " طبعة القس يوسف قليتا (طبعة الموصل 1928 م ) (34) نقلا عن مخطوطة يوبطخين كرمليس : " وعلى ذكر المظفرين بين الشهداء والمشهورين بين الأبطال مشيدي الأديرة والكنائس ، مانحي العطايا والحسنات مسعفي اليتامى والأرامل الأمير متي والأمير مسعود بك ( اللذين قتلهما الأسماعيليون والمدفونين في هذه البلدة المباركة ) والمهتمين بالكنائس والأديرة الأمير متي والأمير حسن والأمير نجم الدين (المدفونين في هذه البلدة) . وعلى ذكر جميع الملوك المؤمنين محبي المسيح وناصر إبن أهرون رئيس الكتاب الذي قام بالصدقات والأعمال الحسنة في الكنيسة المقدسة . " نستدل مما ورد في كتاب " رتبة القداس " أن كنيسة المشرق إعتبرت الأمير متي والأمير مسعود بك من شهداء الكنيسة . اما عن كيفية إغتيالهم من قبل الأسماعيليين في مدينة سعرد – في تركيا الحالية – فيقول المفريان غريغوريوس إبن العبري : أن الأمير متي الأول الذي كان جابيا للخراج – وهي ضريبة فرضها المغول إبان حكمهم – أرسل من قبل المغول الى مدينة سعرد لكي يستحصل الخراج من السعرديين ، غير أن سكان المدينة خرجوا عليه بالسيوف والخناجر وهاجموه في المسكن الذي كان يقطنه وأردوه قتيلا يوم الأثنين 31 تموز سنة 1291 م . اما ألأمير مسعود بك فقد قتله الأسماعيليون في حادثة منفصلة على ما يبدوا ، إذ جاء ذكره في مناسبة تنصيب المفريان غريغوريوس متي البرطلي الذي نال تكريما من الأمير مسعود بك أمير كرمليس عام 1317 م حسبما ورد في كتابات المؤرخ غريغوريوس أبن العبري في كتابيه المدني والكنسي والذي أكملهما شقيقه من بعده .
وقد ذكر القس بطرس نصري في كتابة "ذخيرة الاذهان" قسما من اخبار هؤلاء الامراء مستندا الى ابن العبري وغيره من المؤرخين . وأستنادا الى ما نشره مؤخرا الدكتور أمير حراق في مجلة الفكر المسيحي – العدد حزيران 2009 م – بأنه تم إكتشاف شاهد قبر لأمير كرمليسي آخر هو الأمير ( علاء الملك ) أثناء الترميمات التي إجريت على كنيسة القديسة بربارة عام 2008 م ، يقول حراق " ... عثر القائمون على عمليات الترميم على حجارة أثرية تحمل كتابات سريانية صورتها أثناء زيارتي البلدة في حزيران 2008 م ... تبين لي أن إحداها ليست إلا شاهد قبر نادر جدا لأحد هؤلاء الأمراء من العصر المغولي ، ولحسن الحظ حرص مسؤولوا الترميمات على الحفاظ على هذه الحجارة الثمينة ، فبنوها داخل إطار حجري في حائط الممر المؤدي الى الكنيسة لتشهد على عراقة كرمليس التاريخية . " (34)
يقول النص السرياني المكتوب بالخط الأسطرنجيلي الجميل وبتسعة أسطر :
" بشما محيانا – حزق من علما هانا – عاوورا ومشتريانا – لهو علما مثقونيا – علاء ملكا مهيمنا – بر سلطان شاه مشمشانا - شوأ ... لد .. كرنا – حنانا " والذي تفسيره بتصرف : إنتقل من هذا العالم المرتحل والزائل ، الى العالم الباقي ، علاء الملك ، ابن سلطانشاه الشماس ، الحنان له كل الذكر . والى جانب النص السرياني كان هناك نصا عربيا إلا انه مفقود أغلبه ولم يبقى منه إلا اسم الأمير ( علاء الملك ) مع عبارة (لولو صاغها ال .... ) . ومع الأسف لم يعثر على تاريخ الوفاة غير أن أسلوب الكتابة كما يقول الدكتور أميرحراق هي شبيهة بالكتابات الموجودة في دير مار بهنام للسريان الكاثوليك والتي تعود للفترة المغولية . أن هذا الأمير لم يرد ذكره في كتاب " سفر الأحياء والأموات " الذي كتب في عهد البطريرك دنحا الثاني (1332 – 1364 م) مما يدل أن هذا الأمير عاش بعد تلك الفترة . وعلى ما يبدوا أن ساحة كنيسة القديسة بربارة كانت مثوى ومرقدا لكبار القوم في بلدة كرمليس ، وأنا أتذكر كانت كنيسة القديسة بربارة قبل عملية التوسيع والترميم كان فيها رواق مسقف عند المدخل ويضم قبورا قديمة جدا ، كما عثر في الجزء الغربي من ساحتها على بضعة قبور من بينها ضريح كبير من الرخام النينوي المائل للزرقة شبيه برخام الأثار الأشورية التي عثر عليها في النمرود وغيرها من المواقع ، كان هذا الضريح يضم هيكلا عظميا لرجل جالس على كرسي من الرخام ، كما ذكرته في موضوع آخر من هذا الكتاب ، ولا يستبعد أبدا أن تكون هذه القبور هي لتلك الأمراء .
ويتساءل الأستاذ حراق ان اللوح الرخامي المكتشف في دير مار بهنام والمكتوب باللغتين الأرمنية والأسطرنجيلية والتي تنص : " ليغفر الله كونديننا سركيس أبن بختيس الذي ن (صب الصلي) ب الحي هنا " ليس بعيدا أن يكون أميرا أرمنيا من كرمليس في الفترة المغولية .
ومن الجدير بالأشارة أن الأرمن قد تواجدوا في كرمليس منذ أمد بعيد وعلى أقل تقدير منذ عام 1310 م بعد المجزرة التي ألمت بمدينة أربل ، ففر الناجون منها الى كرمليس حيث كانت آمنة ومستقرة ، وهذا ما يفسر تواجد السريان الأرثوذكس والأرمن في كرمليس في القرن الرابع عشر ، حيث شهدت تلك الفترة علاقات تعاون ومحبة بين كنيسة المشرق والكنائس السريانية الأرثوذكسية والأرمنية ، وقد ذكر بطرس نصري في كتابه ذخيرة الأذهان كيف أستقبل الأمير الكرمليسي مسعود إبن عمر المفريان متي البرطلي عام 1317 م وكرمه ، وكيف أستقبل الأمراء الكرمليسيون متي الثاني وناصرالدين وسلطانشاه البطريرك الأرثوذكسي في كرمليس عام 1358 م ، ومما يؤكد تواجد الأرمن في كرمليس ما ورد في المصدر المذكور عن أستقبال الأمير بايزيد أمير كرمليس وبمعيته إكليروس كنيسة المشرق وإكليروس الكنيسة الأرمنية للمفريان السرياني أثناسيوس الثاني عام 1365 م . وعندما نتحدث عن إكليروس فلا بد من وجود كنيسة لذلك الأكليروس ، لكنني لم أجد أية أثار ملموسة أو مصدر تاريخي عن وجود تلك الكنيسة الأرمنية أو موقعها في كرمليس ، فذلك شيئ غامض ولكن ربما الأيام اللاحقة ستكشف هذا الغموض إذا ما إجريت تحريات وتنقيبات أثرية .
وما أن حل القرن الثامن عشر حين إستفحل النزاع بين الأمبراطورية العثمانية والأمبراطورية الفارسية ، وتطور النزاع الى صراع مسلح بين الدولتين فقامت الحروب بينهما ، فعانت الكثير من بلدات وقرى منطقة الموصل من هذه الحروب و النزاعات وبالأخص كرمليس ، برطلة ، وباخديدا حيث هاجمها الأمبراطور الفارسي نادرشاه قولي خان (طهماسب) في 15 آب 1743 م (سنأتي الى تفاصيل ذلك في هذا الكتاب لاحقا ) .
المصدر :
حبيب حنونا : " تاريخ كرمليس " النسخة الموسعة تحت الطبع