لا شك بان كل واحد منا عانى ما عاناه من تبعات "تحرير الكويت" المؤلم ونستذكر جميعنا المآسي والالام منذ 8/2 وما ترتب على هذا العمل ولا نزال.
لنقدّر ونشكر الأخ العزيز سلام توفيق أبو باستيان على نشره تذكيرا موثقا لما تحمّل "نصيبه منه" وهو نزر يسير مما عاناه كل فرد عراقي او كويتي.
أنشر هنا النص المنقول من موقع "كرملش منبر العراقيين" وكما نشره هو بثلاثة أجزاء: جرجيس
الجزء الثاني: لقد غدر الغادرون ... سلام توفيق
كرملش منبر العراقيين
لقد غدر الغادرون
سلام توفيق
هذا الجزء الثاني من القصة التي كان جزئها الاول بعنوان17 كانون الثاني تاريخ لايمكن ان انساه
في حوالي العاشرة صباحا تجمعنا عند مقر السرية ... كان تعدادنا لايتجاوز الثلاثين شخصا اي حوالي نصف الموجود الكامل المفترض ... اوجز لنا النقيب جواد غ ب الامر بان امر الحركة هو التحرك على ظهور الناقلات من منطقة السلمان الى منطقة البصية ثم بعد الاكتمال يتم الانفتاح في منطقة كسر الجناح مابين فرقتي المشاة 45 و26 ... وطلب ان يكون اركاب الدبابات على الناقلات ابتداءا من الرعيل الاول فالثاني والثالث فمقر السرية في النهاية
... ثم امرني ان اقوم بتصعيد جميع الدبابات على رمبات الناقلات كوني الوحيد من بين سائقي الدبابات صاحب الخبرة اضافة لكوني معلم سياقة دبابات تي 55 الصينية بينما بقية السائقين كانوا من المواليد الجديدة وبعضهم لم يكن في الاصل سائق دبابة وانما ناقلة مدولبة او مسرفة ... ولان غالبية الدبابات كانت لاتعمل بالنضائد - بطاريات - كون اغلبها مستهلكة وكذلك فان اغلبها كانت لاتعمل عن طريق الهواء المضغوط في ايام الشتاء الباردة ... طلبت من امر السرية ان ابقى اخر دبابة لاتمكن من تشغيل جميع الدبابات عن طريق سحبها بحبل السحب من دبابتي ... فوافق مضطرا بعد ان تهكم قائلا: ... اعرف راح تدزنا كلنا وبعدين تدير وجهك وتروح للبيت اسبوع ماترجع !!!
كان صوت الراديو يتناهى لاسماعنا من اماكن مختلفة بصوت الرئيس الراحل صدام حسين وهو يلقي خطابة الشهير الذي استهله بعبارة لقد غدر الغادرون.. من كان يقصد الامريكان الذين اعطوه الضوء الاخضر لدخول الكويت ام حكام الخليج الذين سمحوا لطائرات العدوان بالانطلاق من قواعد على اراضيهم
تم كل شيء بسرعة وانطلقت جميع الناقلات واخرها كانت تقل دبابتي التي بقينا على ظهرها انا وجندي اخر غير بولص الذي كان في طائفة دبابة اخرى وكانت طائفته قد هربت بالكامل فلم يبقى امامه الا ان يغادر معها ... هذا الجندي كان اسمه باسم محمد مغتاب وهو من اهالي مدينة العزيزية ... جلسنا على ظهر الدبابة ونحن لانملك الا بضع اشرطة رصاص مقاومة الطائرات ... وكنا نتبادل الاحاديث حول المستقبل المجهول الذي ينتظرنا ونمني النفس بان يكون القاطع الذي سنمسكه افضل حالا من سابقه ... كان الطريق الذي يربط قضاء السلمان الى مدينة السماوة والذي يسمى بالمملحة طويلا جدا وموحشا ... لم يقطع الملل والبرود والشعور بخيبة الامل الذي ساورنا الا صوت انفجار من احد الاطارات الضخمة للناقلة ... توقف السائق واركن ناقلته على يمين الطريق ... تفحص الاطار وهز راسه ... ترجلنا نحن ايضا وسالناه هل الامر سيء؟ ... قال ليس عندي اي اطار احتياط وناقلاتنا مستهلكة من ايام حرب ايران واذا انفجر اطار اخر ستكون نهاية رحلتنا هناك ...
لم تكن تفرق معنا كثيرا ... لم نهتم للامر ... سارت الناقلة مجددا وبعد اقل من 10 دقائق انفجر اطار اخر ... نزل السائق وطلب مني انزال الدبابة من على ظهر الناقلة لانه لم يعد بالامكان الاستمرار واكد لنا انه سيعود الى وحدته ليرسل لنا ناقلة اخرى وقد يسسغرق هذا بضع ساعات وربما حتى صباح الغد على اسوء تقدير ...
لم يكن لنا اي خيار ... فطلبت منه ان يتحرك قليلا الى الامام بالناقلة ثم يضغط على الفرامل فجاة حتى تسرح الدبابة للخلف بعد تحريرها من السلاسل الحديدية المربوط ببدن الناقلة لمنع انزلاقها ... وفعلا تم ذلك بنجاح وتوجس كونه كان خائفا من عدم اشتغال الدبابة حينها عند تعشيق جهاز التبديل على السرعة الخلفية - الباك- وبالتالي لو انحرفت وتوقفت في منتصف الشارع العام فانها ستقطع الطريق على السيارات ... اذا ما لم تفلح محاولات تشغيلها بالهواء المضغوط او النضائد ... ولكن الامور سارت على مايرام وتوقفت الدبابة بمحاذاة الشارع على بعد قدم واحدة من حافته ...
كانت الشمس قد غابت ... وكل ماحولنا صحراء على امتداد البصر ... وقد انهكنا الجوع والبرد ... فطلب مني باسم ان نجمع مايمكن جمعه من مواد قابلة للاحتراق اضافة لبعض الاخشاب التي كنا حصلنا عليها من بعض صناديق العتاد التي حصلنا عليها وقمنا بعمل موقد في سطلة الزيت الخاصة بالدبابة بعد ان ثقبناها من عدة جهات مستخدمين الكاز الذي في خزانات الوقود للدبابة والتي كانت شبه مملوءة ...
وهكذا بقينا حتى حوالي التاسعة مساءا على ظهر الدبابة ... ثم قررنا ادخال الموقد بعد ان تحول مافيه الى جمر الى داخل الدبابة وقررنا اغلاق ابوابها من الداخل باحكام واللوذ فيها حتى الصباح ... حيث طويت انا كرسي السائق للخلف وتمددت باتجاه الخلف حيث كرسي رامي الدبابة بينما تمدد باسم تحت كرسي المخابر وهي اوسع نوعما ... بقينا حتى الحادية عشرة هكذا ونحن نتبادل الاحاديث لقتل الملل ... حتى استنفذ الجمر وبداء البرد يفرض سطوته علينا ... ومع مرور الوقت بدانا نسمع اصوات تصدر من حول الدبابة تتلاشى مع قدوم اي عجلة على الطريق ثم تعود للظهور بعد ابتعاد العجلة او المركبة ...
لم يتحمل باسم فقال سافتح باب المخابر في الاعلى لارى ما الامر ... قلت له خذ معك القضيب الحديدي - هيم - لاننا ليس معنا اسلحة شخصية ... دفع الباب للاعلى قليلا وسحبه مجددا بسرعة واغلقه ... قال :
هاي صوت ذيابة قريبة على الدبابة !!.
قلت له كيف عرفت انها ذئاب ...؟؟
قال انا فلاح ابن فلاح من الكوت وقضيت عمري بالارياف وبالمزارع والحقول ...
قلت له اسمع ساشغل مصابيح الدبابة الرئيسية لفترة وجيزة وانت حاول ان تسترق النظر لكن لاترفع الباب كاملا للاعلى ... عندما انرت المصابيح صدرت منه شهقة قوية ... قال:
تعال شوف عيونها شلون تلمع يمكن بيها 7-8
قلت له اغلق الباب ولننتظر حتى الصباح فليس بامكاننا عمل اي شيء الان . ...
عند الصباح لم توحي لنا المشاهد انه سيتغير شيئا في الامر ... لم يكن احد يلتفت لنا ولايتوقف ليسالنا من انتم وماتفعلون هنا ... بقينا هكذا حتى عصر اليوم وقد انهكنا الجوع تماما ...توقف فجاءة بيكب ابيض فيه رجل خمسيني العمر مع زوجته سالونا ان كان معنا طعام او ماء ...فاجبنا سلبا ...قالوا سنعود اليكم او سنرسل لكم شيئا من الطعام ...قبل الغروب عاد نفس البيكب وكان الرجل نفسه ... احضر لنا جليكان ماء وخبز وتمر وبعض الخضراوات ...شكرناه كثيرا... واعطيناه جليكان كاز لان الوقود كان اصبح شحيحا وصعب الحصول عليه من منافذه ...
نمنا تلك الليلة كسابقتها ...وفي الصباح كنا نامل ان ياتينا الفرج دون جدوى حتى اذا حل المساء توقفت سيارة عسكرية نزل منها ضابط برتبة عقيد وسالنا عن وضعنا فشرحنا له الامر فوعدنا بالمساعدة وانه سيبلغ مقر الفرقة بالامر وتركنا مودعا وشكرناه لاهتمامه ... قلت لباسم اعتقد اننا سنبقى هنا لايام ...قال نعم هذا واضح لكني سانتظر اذا تريد ان تذهب لاهلك فلا تنتظر...
قلت هل ادعك لوحدك ؟؟...
قال لاتفرق معي انا ابن الريف وربما سياتون غدا او بعده فقط ان كان معك ان تقرضني 5 دنانير ربما احتاجها لانه لم يبقى معي شيئا
كان معي حوالي 20دينار فاعطيته 5 منها ...وبقينا رغم الظلام على ظهر الدبابة نلوح لاي سيارة قادمة من السلمان باتجاه مدينة السماوة ...مرت ساعات حتى تسرب الياس الى قلبي ...لكن شاءت الاقدار قبل ان اقرر البقاء مرور بيكب يستقله عسكريون ومعهم جنود في الخلف - البودي - الذي كان دون غطاء متكومين على بعضهم البعض من الهواء البارد وزخات المطر المتقطعة ...هل تصلون للسماوة سالتهم ...فاشاروا لي بسرعة ...قفزت بسرعة مودعا باسم ... نلت من البرد مانلت ...حين وصلنا للسماوة كانت تغرق بالظلام كانت الساعة حوالي 11 ليلا واصوات صافرات الانذار والقصف الجوي بكل مكان ...نزلنا بسرعة من البيكب انتشرنا كل باتجاه ...ذهبت الى مراب السماوة كان خاليا تماما من الحياة ...لامفر يجب ان انام في الفندق حتى الصباح ...اتجهت الى فندق دنيا في وسط السوق كنت قد نمت فيه سابقا ...الباب مغلق ناديت على الحجي ...
جاء مع فانوسه ...رجوته ان يفتح الباب ...ففعل ... قلت اريد غرفة سريرين وشوية اكل ...قال غرفة انطيك بس ليش مال نفرين ...قلت له ملابسي مبللة تماما بالماء لاني غصت في حفر الشوارع وانا اركض من القصف والدنيا ظلام وراح انزع كل ملابسي واتغطى ببطانيتين ...قال طيب ولكن ليس عندنا اي طعام ليش ما تعرف الوضع !!
صعدت الى غرفتي لاحت لي في الممر سلات الاوساخ وجدت فيها ضالتي بعض بقايا الخبز وعظام دجاج فجمعتها واشبعت بها عصافير بطني ولو الى حين ... كانت ليلة رهيبة من اصوات القصف القريب مرت علي كانها دهر ...في الصباح توجهت الى الكراج مجددا وهناك كانت مفاجات جديدة بانتظاري حتى وصلت للبيت ...