قبل اكثر من عشر سنوات كتبت في مواقعنا الالكترونية سلسلة من "قصص من الماضي" ويعجبني ان اعيد نشر قسم منها، ففي قراءتها متعة وابتسامة.
هذه واحدة من تلك القصص:
قصص من الماضي: نحرس من من من؟؟
(رحم الله الذين رحلوا واطال الله بعمر الاحياء الذين ترد اسماؤهم هنا)
نحرس مَن مِن مَن؟
في شتاء عام 1987 وفي المساء قُُرع جرس بابنا ففتحت الباب لارى ثلاثا من جيراني في الدورة/ بغداد من "الحزبيين الكبار" فرحبت بهم وقدمنا لهم القهوة ونحن نتكلم في "القضايا العامة" التي تهم المواطن العادي .
بعد شرب القهوة قال احدهم وهو يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد , واعتدنا دائما ان نسميه الدكتور , موجها كلامه لي: عيني ابو بسام جئنا لنطلب منك ان تلتحق في الجيش الشعبي في القاطع القادم الذي سيبدا تدريباته في النهروان في بداية شباط القادم . قلت : ولكنني انا موظف في الدولة وعنواني رئيس مهندسين وعمري 50 سنة فجميع هذه الاسباب تجعلني "خارج الجيش الشعبي", قال: كل ما قلته صحيح ولكن سنقول بانك انت الذي تقدمت بالطلب وباصرار للالتحاق، وهذا القاطع هو "خفيف" وعند انهائه ستكون لديك "ورقة شرف المساهمة في قادسية صدام المجيدة تضعها في جيبك"!!. قلت لهم عند مغادرتهم: انا موظف وساعرض الموضوع غدا في الوزارة لارى ما ستقرره واعلمكم! في الصباح ذهبت الى المدير العام واخبرته بالموضوع فقال: عمي روح ولا تخلينا بوجه المدفع ! وشلون مدفع! فتعذرني ما نكدر نسويلك شي .
فاخبرت جاري الدكتور بانني سالتحق بهذا القاطع . فقال: سنكون نحن معك في كل خطوة . قبل يوم الالتحاق اخبروني بان لا اذهب الى موقع التجمع , سياخذوني بسيارتهم الى النهروان وهذا ما كان حيث اخذوني من البيت مع حقيبتي الكبيرة الى معسكر النهروان مشكورين , وتدربنا على (اليسيم وتفصيخ الكلاشنكوف وغيرهما من العلوم المتطورة) لمدة شهرين وكنا نحن الكرمشايي "نسلي بعضنا بعضا عن طريق القصص والحكايات الطريفة والنكات" وكان معي خضر نعوم حودي وايشوع سعيد شنكول وفهمي الياس عوديش وآخرين لا تسعفني ذاكرتي "المعلسة" لدرج اسمائهم . وفي احد الايام الشباطية الباردة قال العريف "المحاضر" اجلسوا على الارض فجلسنا نستمع اليه وهو يشرح لنا "الامور الطبية" قائلا: ان ما يسبب لنا الامراض هي الجراثيم وتسمى ايضا المكروبات وهي ثلاثة انواع: صغار هلكد , ووسط هلكد , وكبار هلكد فاتحا يده ليدلنا على حجم الجراثيم الكبار بقدر شبر!!!واستمر بالقاء هذه المحاضرة "القيمة" واثناءها انا قلت كلاما ضحك معه من كان بجواري, فسكت "العريف المحاضر" وقال: من الذي قاطعني؟ فرفعت يدي , فقال: تروح هرولة لمعاون امر القاطع وتقول له انك قاطعت العريف . فذهبت مهرولا مسافة حوالي الكيلومتر لاتدفّى فدخلت الى المعاون واديت التحية العسكرية واخبرته بالموضوع فقال: لماذا ضحك الناس؟ ماذا قلت؟ فقلت: هبت ريح بارده جدا فنظرت نحو الافق وقلت: عفية مبردة لا واتر بمب يعطل ولا قايش ينكطع ولا ماطور يحترك!!! فضحك المعاون بدوره وقال: اتجيد الكتابة؟ فقلت: قليلا , فقال: نريد احدا يساعدنا على عمل جداول باسماء المقاتلين , فهل تستطيع ذلك؟ وقبل ان اجيب دخل احدهم الى المعاون وادى التحية ونظر الي وقال: استاذ جرجيس ماذا تفعل هنا؟ فساله المعاون : هل تعرفه؟ فقال: انه المهندس المشرف على مقاولات الكهرباء في وزارة الزراعة التي ننفذها نحن . فقال المعاون لي: اذن ستشتغل بالجداول , واستمريت في هذا العمل حتى نهاية فترة التدريب , حيث بعدها سننتقل الى الموقع المخصص لنا والذي لم يكن احد يعرفه ما عدا الامر ومعاونه . صعدنا في السيارات التي "تبرع" بها المقاتلون في القاطع ومنهم الاخ خضر نعوم ابو فادي, وسرنا باتجاه الخالص , ثم كركوك , ثم السليمانية, وبدت مخاوفنا تزداد كلما اقتربنا من الحدود الايرانية , وكل واحد يقول مع نفسه: هل نحن سنكون "الطعم" للحرب التي لا تبدو انها ستنتهي يوما؟ وبعد ان عبرنا جمجمال باتجاه السليمانية اتجهت السيارات الى طريق ثانوي فقلت لابي فادي : هذه بازيان وتبعد حوالي 40 كيلومترا قبل السليمانية "فتنفسنا الصعداء". تم توزيعنا على "الربايا" وبدأ المعاون بقراءة الاسماء فاذا بي (آمر ربية المدرسة) ومعي تسعة "مقاتلين" اما مرضى القلب والامراض المزمنة او موظفين كبار كمدير الذاتية او مدير حسابات او رئيس مهندسين . اخذتهم وذهبنا الى موقع "ربيتنا" فاذا بها في غرفتين من الطابق العلوي لمتوسطة بازيان , وهذا ما لم يكن يحلم به اي واحد منا , ان نقضي خدمة الجيش الشعبي في غرف بسقف كونكريتي وارضية كاشي موزائيك! وبامكاننا استعمال المرافق الصحية لجزء كبير من ال24 ساعة! وهكذا سارت الامور بشكل جيد ونقضي وقتنا بالطاولي والدومنة والواحد وخمسين , فيما انا "اطبخ" المرق والتمن بكافة انواعه التي توزع لنا : الامريكي والتايلندي والكردي , ونشتري في بعض الاوقات العنبر والبسمتي من السوق , الذي تكونت لي مع معظم البائعين صداقات , ولكننا كنا دائما نلتزم "باوامري" التي تقضي : تكلموا وتناقشوا بكل المواضيع ما عدا الدين والسياسة , ولكننا كنا نتساءل يوميا ولعدة مرات: ما الذي نفعله هنا , ونحمي مَن مِن مَن؟ وكان اصدقائي الذين لم تسنح لهم فرصة العيش مع الاكراد يلحون علي دائما بان اسأل في السوق عن "القجغات" , وبعد مدة سالت احدهم الذي كان اكثرهم لحوحا : ماذا تريد ؟ فقال : مسدس . فقلت له: هذا شيئ بسيط ! كان اعتقادي انك تلح بهذا الشكل بانك تنوي ان تشتري مدفعا او دبابة!!! ولكنني انصحك بأن لا تشتري مسدس من هنا! فاخذته الى احد الدكاكين وسالت صاحب الدكان ان كان لديه مسدس للبيع فرفع السجادة التي يجلس عليها على الدكة ليعرض على صاحبي نماذج من "البضاعة" التي لديه للبيع , والحقيقة لا ادري ماذا حصل بعد ذلك لانني مبدئيا ضد "القجغ" وخاصة الاسلحة التي اكرهها.
كانت "ربيتنا" تتمتع بصداقة وعلاقات جيدة مع كل "القاطع" دون علم "الآمرية" لاننا اقرب ربية الى القرية وطريق سليمانية-بغداد , ولوجود "الاكلات البيتية" لدينا دائما . في احد الايام جاء افراد "حماية آمر القاطع" وكلهم اصدقائي ومهندسين شباب وقالوا: ارسلنا الامر لنعتقلك وناتي بك الى الامر! فاذا ترغب اذهب الان سيرا ونحن سناتي عندما تصل هناك "لندخلك" الى الامر . فذهبت وأدخلوني الى الامر فادينا التحية فاوعز الامر لهم بالخروج وقال لي: وصلتنا اخبار بان احد افراد "ربية المدرسة" له ملابس مدنية يرتديها وينزل الى السليمانية وكركوك , وهذه عقوبة التعاون مع الاعداء. فقلت: سيدي انا الذي البس "قاط ورباط " واذهب الى السليمانية , فصاح : انت؟ ولماذا؟ فقلت : اذهب الى السليمانية لاجلب ادوية للمقاتلين ذوي الامراض المزمنة : القلب والقرحة والانفلونزا ولدغات العقارب والاسبرين , وامواس الحلاقة , والسكاير , والجبن وخبز التنور . فقال: ولمن؟ قلت للجميع ولكل القاطع, حيث انني آخذ الطلبات وانظم فيها قوائم واذهب . فقال : الا تخاف ؟ قلت لآ سيدي فانني عملت كمهندس في دربندي خان واعرف السليمانية مثل الموصل وبغداد . فقال : استريح واستدعى لي شايا , ثم ودعته وامر سائق سيارته لان ياخذني الى مكاني , ولكنني شكرته وقلت " سيدي انا احب ان اذهب سيرا فمسافتنا ليست بعيدة . تكرر المشهد ثانية حيث قال لي : هذه المرة سوف لن اسامحك !! كيف تعتدون انت وفرنسيس على محمد وهو يؤدي صلاته وتلفظان كلمات معيبة اثناء ذلك؟ فضحكت وقلت : سيدي انني لن ادخل في اية تفاصيل وانما اتكلم بشكل عام : لو كان محمد مسيحيا ونحن مسيحيان فكان يمكن ان يحصل مثل هذا الشيئ , ولو كنا انا وفرنسيس مسلمين فكان يمكن ان يحدث , اما بين دينين مختلفين فهذا ما لا يمكن ان يحدث , لاننا كعراقيين نعتبر ان بين الاديان ستار حديدي لا يمكن خرقه او اجتيازه , انني انا المسيحي هو الذي يعد للمقاتلين المسلمين الصائمين الان صوم رمضان الافطار والسحور , وهذا ما يعرفه الجميع ! كذلك يعرف الجميع بانني لا الفظ كلمات معيبة ابدا. فتكرر المشهد مرة اخرى من الشاي والاحاديث الهادئة والنكات .
بالرغم من صعوبة "التاقلم" مع الوضع الجديد الا اننا قدمنا خدمات جليلة للمدرسة حيث قمت بفحص واصلاح جميع الكهربائيات , وتاسيسات الماء ورتبنا الحديقة وزرعناها بالورود الكثيرة والطماطة والفاصوليا والباميا والقطن , وكنت اعد القهوة يوميا لاشارك المديرة والمعاون وعدد من المدرسين والمدرسات الذين اصبحوا لي اصدقاء جيدين , الا ان السؤال الذي كنا نساله يوميا ولمدة ستة اشهر , اصبح بلا جواب : جئنا لمسافة 400 كيلومتر تاركين دوائرنا واعمالنا وعوائلنا لنحرس مَن مِن مَن؟!
المهندس جرجيس يوسف الساعور/2009