ليلة بغديدا... ضحى عبد الله تروي حكايتها الأليمة
كنيسة الطاهرة الكبرى في بغديدا عام 2021 بعد إعادة إعمارها | Provided by: Raghed Nenwaya/ACI MENA
بقلم: جورجينا بهنام حبابه
أربيل, الأحد 6 أغسطس، 2023
صباح الأربعاء 6 أغسطس/آب 2014، استفاقت بلدة بغديدا على دوي قذائف هاون عشوائية سقطت على منازل راح ضحيتها ثلاثة شهداء هم: إنعام إيشوع بولص القس (32 سنة)، وديفيد أديب إلياس شميس (5 سنوات)، وميلاد مازن إلياس شميس (9 سنوات).
كان سقوط مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى وثاني كبرى مدن العراق، في قبضة تنظيم داعش الإرهابي في العاشر من يونيو/حزيران 2014، قد أوقعَ الرعب في قلوب ساكنيها ولا سيّما المسيحيين منهم. لذا اختاروا الجلاء عنها تحت تهديد السيف، بعد انقضاء المهلة الممنوحة لهم من التنظيم يوم 19 يوليو/تموز 2014. فقد خُيّروا بين اعتناق الإسلام أو عهد الذمة، والمقصود به دفع الجزية، أو مغادرة المدينة. و«إن أبوا ذلك فليس لهم إلا السيف». شحنَ الرعب والترقب أجواء قرى وبلدات سهل نينوى المقصودة من الهاربين من الموصل، بخاصّةٍ بعد ورود أنباء فظائع ارتكبها داعش بحق الإيزيديين لدى اجتياحه بلدة سنجار وما جاورها في 3 أغسطس/آب. وفي 6 أغسطس/آب وصل التنظيم إلى بغديدا.
والدة شهيد تروي التفاصيل
روت ضحى صباح عبد الله والدة الشهيد ديفيد في حديث خاص إلى «آسي مينا» ذكرياتها المريرة عن ذلك اليوم. فأوضحت أنّ ديفيد توفي في الحال وتطايرت أشلاؤه حتى إنّهم لم يعثروا إلا على أجزاء من رأسه ورجليه. وتوفي ابن عمه ميلاد لاحقًا متأثرًا بإصابته، كما أصيب عدد من أقاربهم وجيرانهم.
فصّلت ضحى أنهم كانوا قد اعتادوا سماع أصوات القذائف. لكنّهم لم يتوقعوا أبدًا أن تسقط إحداها في حديقة منزلهم التي اعتادوا اللجوء إليها في ساعات انقطاع الكهرباء المتكرر. وتابعت فصول مأساتها قائلةً: «جاء أخي حاملًا كيسًا مليئًا باللحم، فسألته مستغربةً: "ما هذا؟" فأجابني: "هذا ابنك!"» وأردفت: «لا يمكن لأحدٍ تصوّر ذلك الموقف المفجع! لا تغيب هذه الصورة عن خيالي، أشعر أنها تمرّ الآن أمامي».
ضحى صباح عبد الله وابنها الشهيد ديفيد. Provided by: Raghed Nenwaya/ACI MENA
انهمار القذائف
لم تنقطع أصوات القذائف يومها، كما أوضح الشاهد نمرود قاشا في حديث خاصّ إلى «آسي مينا». وأكّد قاشا أنّ مع انتهاء مراسم التشييع والدفن كانت حركة النزوح قد بدأت. ظنّ المغادرون أنّها أيام تنقضي ويعودون، كما غادروا سابقًا في إثر أحداث مشابهة في 26 يونيو/حزيران ثم عادوا بعد أيام عدة.
وشرحت ضحى أنّ أصوات القذائف لم تنقطع طوال مراسم الدفن. وعندما علموا لاحقًا أنّ الخوف دفع الناس إلى الفرار، قرروا أن يغادروا هم أيضًا في الصباح بعد القداس. لكنّهم غادروا ليلتها فور تلقّيهم اتصالًا تحذيريًّا بعد منتصف الليل من صديقٍ لزوجها يقطن في الموصل. يومها، حذّرهم هذا الصديق من قرب اقتحام داعش بغديدا ودعاهم إلى الإسراع بالمغادرة.
نزوح 60 ألف نسمة
مع ساعات الفجر الأولى، وبعد ورود أنباء عن تسلُّل عناصر داعش إلى حقول البلدة، وانسحاب القطعات العسكرية المكلَّفة بحمايتها، بحسب قاشا، كان الشارع الرئيس المؤدي إلى أربيل يغصّ بالنازحين. وإذ لم تتوفر مركبات كافية لإقلال ستين ألف شخص، أي جميع سكان بغديدا حينها، راحت أفواج السائرين تُزاحم السيارات. ولم يبقَ في البلدة غير بعض العجزة وكبار السن ممّن لم يتسنَّ لهم الرحيل.
لا تستطيع ضحى أن تصف مشاعرها وهي تغادر بلدتها تاركةً ابنها وحيدًا في ليلته الأولى بقبره، وقالت: «لم تتوقف عيناي عن ذرف الدموع طوال الطرق المؤدية إلى أربيل والأفكار السُّود تتقاذفني. خشيت أن ينبشوا القبر أو يدنّسوه».
بدوره، أوضح قاشا أنّ الطرق المؤدية إلى أربيل ودهوك غصّت بالحشود. فعشرات آلاف المسيحيين الفارين من القرى والبلدات المسيحية انتظروا ساعاتٍ طويلة لعبور نقاط التفتيش التابعة لإقليم كردستان بحثًا عن ملاذ آمن.
سقطت بغديدا!
«صباح السابع من أغسطس/آب، لم يعد ثمّة مجال للشكّ في أنّ بغديدا وكرمليس وبرطلة سقطت كلّها في قبضة داعش» كما أكّد قاشا. وأضاف أنّ أصوات الرصاص التي رافقت تقدُّم العناصر الإرهابية كانت تصمّ الآذان.
اختبرت ضحى ظروفًا قاسية في خلال فترة التهجير ومنها عيشها في إحدى المدارس. وشرحت أنّ عائلتها تشاركت السكن في غرفة أحد صفوف المدرسة مع ستّ عائلات أخرى. كما عانت ضحى مع عائلتها نفسيًّا، ما اضطرها اللجوء إلى فرنسا. لكنها فسّرت، أنّ حال تحرير بغديدا طالبت المنظمات الإنسانية في فرنسا بإعادتها إلى الوطن لزيارة قبر ابنها الشهيد.
البابا فرنسيس يلتقي ضحى صباح عبد الله في كنيسة الطاهرة الكبرى ببغديدا عام 2021. Provided by: Raghed Nenwaya/ACI MENA شهادة حياة أمام البابا
وفي خلال شهادة إيمانها الراسخ، أعلنت ضحى «أننا كمسيحيين نؤمن إيمانًا قويًّا بأننا دائمًا مشاريع استشهاد»: وأبرزت أنّ «استشهاد هؤلاء الملائكة الثلاثة كان علامةً واضحة لنا، لولاها لبقي الأهالي في بغديدا. ولكانوا وقعوا في قبضة داعش حتمًا. إنّ أرواحهم أنقذت المدينة كلّها».
واستطردت: «قوّتنا تأتي حتمًا من إيماننا بالقيامة وتشبّثنا بالرجاء وإيماننا بأنّ أطفالنا في السماء في حضن الربّ يسوع». وأعلنت أننا «نحن الأحياء نحاول أن نسامح المعتدي لأنّ معلمنا يسوع سامح جلاديه وبه نقتدي في آلامه ونعطي شهادة هي أنّ المحبة أقوى من كلّ شيء».
وعادت لتشدّد على هذه المعاني في حديثها إلى «آسي مينا»، وخلصت إلى أنها تجد العزاء في اعتبار طفلها ورفاقه الشهداء منقذين وقرابين، لولا تضحيتهم لكانت مأساة بغديدا أعمق. وشدّدت على فخرها بطفلها «شهيد المسيحية».