الاصالة كيف تكون معاصرة في الكنيسة؟
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
يهدف هذا المقال، ليس إلى أقناع الملتصقين بالقديم – التراث، على أنه هو الأصالة، بل توعية المؤمنين المعاصرين، إلى ما توفره الاصالة من ثمار، بدون التقوقع على الماضي، وإلغاء الحاضر، وتسقيط الآخر، لأجندات بعيدة عن موهبة المحبة وإلهامات الروح.
الأصالة، Authenticity بحسب وجهة النظر السائدة هي القديم – التراث، من دون الادراك ان القديم والتراث قد يفتقران الى الأصالة!
الأصالة – الأصيل هي البدايات الممتازة والخلّاقة، والانجاز الثرّ الممتد لعقود من الزمن، والتي ينبغي ان تتواصل معنا، لكن يا ترى ما معيار ذلك؟ معيارها هو وعيّ بالذات والزمان والمكان والثقافة واكتشاف حقيقته ومشروعيته لان الحق هو حق في ذاته، من دون ان يكون تحت الأغلال، أي جامداً في الماضي والتقليدي كما يروّج بعض “المتمخترين” بالدعوة الى رفض التجديد والإبقاء على الماضي – التراث بعلّاته.
التراث ليس “متحفا”، بل هو متحرك. الأصالة ليست مبدأ “تقبلني كما أشعر به”، لأن هذا الادّعاء قد يكون غير حقيقي وغير نزيه. من المؤسف أن البعض يستخدم “الأصالة” بشكل انتقائي لتعزيز موقفه وتنصيب نفسه وصيّاً على الآخرين، وينكر عليهم حقهم في ما يطالبون به.
الحداثة، updating. ان الانسان والمجتمع والكنيسة وغيرها من دور العبادة المفروض ان تكون كائنات حيّة ومتطورة، وليست تقليدية جامدة!
الحداثة حركة عالمية للمعاصرة تشمل مجالات عدة. وكذا الأمر بالنسبة للكنيسة التي تسعى لتأوين الطقوس والتعليم والبنى، ومراجعتها بدقة وبتقنيات جديدة، كما دعا المجمع الفاتيكان الثاني (1962 – 1965) وسينودس الأساقفة من أجل السينودالية الذي دعا اليه البابا فرنسيس (تشرين الأول 2023 وتشرين الأول 2024). الكنيسة موجودة لتعزيز الحياة التي تنبع من أعماق الإيمان وحقيقة الإنجيل وتطلعات المؤمنين. هذا ما حاولت كنيستنا الكلدانية ان تقوم به في تأوين جميع طقوسها الليتورجية.
تهدف الحداثة الى اكتشاف ما كان “حداثياً” بحماوة، وأصيلاً ومبدعاً في زمانه ومكانه، للحاق بتطور عقلية الناس اليوم، وثقافتهم وحساسيتهم. لذلك تسعى الكنيسة لقراءة الأصيل قراءة جديدة علمية، وترجمته الى الواقع المعاصر بمفردات بسيطة ومبتكرة، واضحة ومفهومة. هذا التواصل الواثق يرسّخ تجذّر المؤمنين في هويتهم المشرقة، ويترك اثره!
عندما نتعامل مع الماضي – التراث، ينبغي أن نميّز الأصيل من الدخيل، والعميق من الركيك، ونحلّله من جميع جوانبه، ونقيمه وننشِئه بشكل جديد، ليعكس بفاعلية تطلعات المجتمع المعاصر بشكل أفضل، ويغدو بالتالي جزءً من اصالتنا الحالية. من لا يقبل الانفتاح والتغيير “يحنّط” نفسه! ويجعل من جماعته، جماعة منغلقة، مسكونة بهاجس التأثر بالآخر، مهما كان ذلك ايجابياً.
بالنسبة لوحدة الكنائس المسيحية، وعلى وجه التحديد الشرقية منها، والتي ما يوحِّدها أكبر بكثير مما يفرّقها، بالامكان التوصل الى إيجاد صيغة جديدة للوحدة، تحررها من الانشطارات التاريخية التي اضعفتها الى درجة الوهن، وترسخ الشركة الايمانية والكنسية، وتحافظ على ارثها المتميز (وحدة في الجوهر، وتنوّع في الشكل). اذكر هنا الوحدة بين الكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق الاشورية، والكنيسة السريانية الارثوذكسية والسريانية الكاثوليكية، والملكية الرومية بفرعيها وهكذا الكنائس الاخرى، فالأصل مشترك، والتاريخ والارض واللغة والطقوس والعقيدة. عندما نكون متجزئين داخل أنفسنا وكنائسنا ومجتمعاتنا لا يمكننا أن نكون “أصيلين”، ولا يمكن أن نقوم بالحداثة، ولا ان نكشف للعالم اننا متحدين مما يضعف شهادتنا الانجيلية!
الايمان المسيحي يريدنا ان ننفتح على الحاضر ونميّز علامات حضور الله وننطلق للمضي الى الامام في وحدتنا المرتكزة على التواضع والالفة الاخوية، والاغتناء المتبادل، و نعبّر عنها بمحبتنا وخدمتنا وشهادتنا، وتعزيز الحضور المسيحي في هذا الشرق المضطرب، ومواجهة التحديات برجاء، حيث يتعرض المسيحيون للمضايقات وحياتهم للخطر مما يدفعهم الى الهجرة.