قصص من الماضي - بيخال وديانا
قبل اكثر من عشر سنوات كتبت في مواقعنا الالكترونية سلسلة من "قصص من الماضي" ويعجبني ان اعيد نشر قسم منها، ففي قراءتها متعة وابتسامة.
هذه واحدة من تلك القصص:
بيخال وديانا
(رحم الله من رحلوا عنا واطال الله بعمر من بقوا ممن ياتي ذكرهم)
من خلال جولاتي في مختلف مناطق العراق كنت دائما آخذ كامرتي معي لالتقط اي منظر رائع , وما اكثرها ، وعندما كنت استلم الصور من الطبع كنت اعرضها على زملائي المهندسين متباهيا بروعتها . وفي احد ايام آب الاخيرة لعام 1974 ،وعندما جلبت الى الدائرة صورا مطبوعة من فلم من مصايف اربيل شاهدها مهندس هنكاري كان قد بدا العمل عندنا بعقد سنوي قبل شهرين ، فقال مندهشا : اهذه المناظر في العراق؟ فقلت نعم وبامكانك زيارتها متى ما شئت مع عائلتك ، وكنا نتبادل معهم الزيارات العائلية واصبحنا اصدقاء . وبعد فترة قصيرة وفي احدى الزيارات العائلية اتفقنا ان نذهب الى تلك المصايف (منطقة اربيل) خلال عطلة قريبة لاربعة ايام متتالية، وبسيارته المرسيدس ، وعددنا هو 4 كبار و3 اطفال نكون مرتاحين نوعا ما بسيارة واحدة . وضعت انا جدولا بالرحلة بالكيلومترات والساعات كما تعودنا ان نفعل دائما قبل كل سفرة . صباح اليوم الاول جاءنا الهنكاري وزوجته وبنتهم الطفلة ذات الست سنوات بالسيارة التي وضعوا فيها امتعتهم مطابقة للقائمة المطلوبة، فوضعنا نحن امتعتنا وبدانا السفرة باتجاه كركوك- اربيل- صلاح الدين ، وقضينا اليوم الاول والليلة في شقلاوة وصلاح الدين . في اليوم التالي توجهنا الى حرير –كلي علي بيك – بيخال – حاج عمران واخذنا بيتا من بيوت السياحة في حاج عمران وبتنا فيه ، حيث يوجد فيه اسرّة ودواشك فقط !!! حضّرنا عشاءنا على "الهيتر السفري" التي معنا منها اثنان ، وعند عدم امكاننا ايجاد خبز للبيع في المنطقة ذهبت الى الوحدة العسكرية وطلبت منهم "كم صمونة" فاصروا الى اعطائي "كوشر صمون الجيش" فعندما جئت الى البيت قال الهنكاريون: ما هذا الشيئ؟ فقلنا لهم: في وقت السلم هو صمون للاكل ، وفي اوقات الحرب رمانات يدوية ترمى على العدو، فضحكنا كثيرا ونحن ناكل "جلفراي مع الصمون العسكري" وكان لذيذا بحق! صباح اليوم التالي استمتعنا بالمناظر الرائعة والجبال التي يغطي قممها الثلج وتمشينا الى البوابة الحدودية عراق – ايران في حاج عمران ثم عدنا وشربنا القهوة العربية وسلمنا البيت وعدنا باتجاه العودة الى اربيل . وصلنا جنديان وزرنا الكهوف والشلالات وسرنا حتى وجدنا محطة البنزين فقررنا ان "نفوّل" السيارة وكان ممتعا لنا ان نجد مضخة بنزين يدوية وفيها قنينتان زجاجيتان في اعلاها يضخ العامل بيده البنزين الى احدى الزجاجتين ثم يحول بنزينها الى السيارة ويضخ البنزين الى الزجاجة الاخرى وهكذا الى ان نكتفي ونسدد له المبلغ . عندما اخذنا البنزين انتبهنا الى ان سيارتنا قد اخذت كمية كبيرة لم يكن من المفروض ان تاخذه ، فعندما مشينا ركزت انتباهي على عداد الوقود فوجدته يتحرك بشكل غير معقول فقلت لصاحبي : توقف فورا لنرى ما اذا هناك خلل؟ فنزلنا ونظرنا تحت السيارة وخلفها فلم نلاحظ شيئا فمشينا وفتحت النافذة فاذا برائحة بنزين قوية فتوقفنا فجاة وفتحنا المحرك وشغلناه لنلاحظ بان مضخة الوقود تضخ البنزين الى الارض اكثر مما الى المحرك ، فاطفانا المحرك ، وما هي الا دقائق حتى مرت سيارة وسالوا ما اذا كنا بحاجة الى مساعدة ، فقلنا : نعم . " الفيد بمب عاطل " واذا تعرفون ميكانيكيا جيدا في المنطقة ، فقالوا لي : اصعد معنا فسنذهب معك الى ديانا القريبة عند الميكانيكي فلان . ذهبت فانزلوني عنده فطرقت الباب فخرج شاب وسيم مرح ، فحدثته عن القصة ، فقال: ادخل تغدى معنا , وبعدين نتفاهم!! فدخلت واذا بعائلة اكثر من عشرة حول صواني كبة كبيرة ، فعلمت بانهم سورايي قبل ان يتكلموا السورث , فاكلت قطعة من الكبة وخبز رقاق , وطلبت من "الميكانيكي" الاستعجال لان سيارتنا عاطلة في مكان بعيد وعلينا التصرف بسرعة . فاخذ "صندوق العدة" واخذني واخاه بسيارتهم اللاندروفر الى السيارة وتفحص المضخة وقال : لا نحن ولا انتم نستطيع ان نفعل اي شيئ !!! يجب جلب "فيد بمب" جديد فقط! فقلت: اتستطيع انت جلب واحد؟ فقال : لا يوجد عندي ، ولا يوجد في المنطقة , ولا يوجد في اربيل ، وربما لا يوجد حتى في كركوك . انه موجود في بغداد والموصل والبصرة!!! فقلت له : افتح المضخة وصلحها . فقال: هذا ما لا استطيع عمله . قلت : ولكننا سنساعدك . فقال : انها ليست مسالة المساعدة ! الواشر الذي يدفع البنزين ممزق فكيف يمكن اصلاحه؟!! قلت : اتسمح لنا باستعمال عدتك وتُوجّهنا انت ، ونحن نصلحها؟ فقال : يا عمي تصرفون جهدا ووقتا هباء بدون نتيجة!!! قلت : وماذا تقترح انت؟ قال : لا ادري!!! قلت: هل تاتي معي الى الموصل بسيارتك؟ قال لا. قلت : اذا تركنا سيارتنا عندك تعطينا سيارتك اللاندروفر لنذهب بها الى الموصل ؟ قال لا . قلت : اذن سنتوكل على الله ونفتح الفيدبمب ، ففتحناه واخرجنا الواشر الممزق (الدايافرام) وقلت له: هل لديك قطعة جلد جيد؟ فقال لآ ، فقلت للهنكاري : ساقطع وجه حذائي الجلدي ، انه من النوع الجيد "باتا" وسيوصلنا الى بغداد ، وقبل ان نبدا بالقص قالت الهنكارية: لدي حقيبة نقود "جزدان" جلد اصلي فاخذنا مقص الميكانيكي وقطعنا دائرة بقطر حوالى 5-6 سم وثقبنا اماكن البراغي الاربعة ووضعناها في محل الدايافرام الممزق ضمن اندهاش الميكانيكي , وشغلنا فاشتغلت السيارة بشكل جيد وبدون نضح او رائحة، وعرضنا مبلغا للميكانيكي ولكنه رفض فاعطيناه "بطل مسيّح زحلاوي" وشكرناه وواصلنا رحلتنا الى اربيل فلم نجد مضخة الوقود ، ووصلنا كركوك لنجد ضالتنا قاشترينا مضخة الوقود ولكننا لم نربطها ، حيث ان الفيد بمب الذي "صلحناه جيد جدا وبقيت السيارة تسير "بالجزدان" لمدة تزيد عن الشهرين , علما بان تغييرها هو امر بسيط جدا .
هكذا كانت ايامنا : بساطة ، امان ، تعاون ، جراة . نطلب من الله ان يعيد للعراق كل هذه الاشياء التي افتقدناها ويمنحنا الامن والاستقرار .
جرجيس يوسف الساعور/ كندا/2010