مَنْ وراء نزف المكون المسيحي في العراق؟
89 % من الكنائس بلا مُصلّين والهجرة الخامسة مؤشّر خطر
الاعلامي الدكتور صباح ناهي
باحث وكاتب عراقي ومحرر الشؤون العراقية في الاندبندنت البريطانية
الاثنين 4 كانون الأول 2023
ضابط أمن عراقي يحرس كنيسة في برطلة بعد سقوط الموصل
خمس هجرات عجاف أطَّرت حياة مسيحي العراق، الذين باتوا يتناقصون كل شهر، حتى كادوا يكونون أقلية ضئيلة في المجتمع بعد أن كانوا أكثر من مليون ونصف المليون قبيل عام 2003.
لعلَّ أحدث تلك الهجرات هي الهجرة الخامسة هذا العام، بعيد سحب ولاية مرجعهم وكبيرهم الكاردينال لويس ساكو، من الوصاية على أملاك الكنائس والأديرة المسيحية في العراق، بمرسوم جمهوري أصدره الرئيس عبداللطيف رشيد، الذي يقال إنه وعد خلال زيارة لاحقة إلى الفاتيكان بسحب المرسوم الذي ألغى وصاية الكاردينال ساكو الذي أصدره حينها تحت ضغوط سياسية شديدة. وقالت مصادر مقرَّبة من مكتب البطريرك لويس ساكو، في حديثها لـ “اندبندنت عربية”، إن الرجل وصف الوضع الراهن بقوله:
“البلد بات شبكة من المصالح ومن النفاق، ويعاني من الكذب والرياء، فكيف من الممكن أن تصدق أحداً؟ كله افتراء وهذه مشكلة كبيرة جداً يعانيها المجتمع العراقي من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية حتى الدينية، مع الأسف وصلنا إلى هذه المرحلة“.
كنائس بلا مصلين
بدوره، علق الناشط العراقي المسيحي في حقوق الإنسان الدكتور غازي رحو، على أوضاع المسيحيين في بلاده قائلاً: “نعم الهجرة الخامسة بدأت منذ سحب ذاك المرسوم الجمهوري الخاص بالمرجع المسيحي الأعلى في العراق، أي منذ مايو (أيار) الماضي“، موضحاً أن عملية السيطرة على أملاك وعقارات الكنائس التي تعد بالآلاف لا تزال مستمرة حتى الآن.
وأضاف “كما تعلم هناك في العراق الآن بحدود 298 كنيسة لجميع الطوائف بينها 89 في المئة مغلقة لعدم وجود مصلين، سوى في مناطق محددة وبقلة قليلة، وتتركز في (عين كاوه) بمحافظة أربيل وبغداد وبشكل بسيط جداً والبصرة وكركوك“. وتابع “يزداد الأمر سوءاً، بعد ما لاقاه أكبر مرجع ديني في العراق وهو البطريرك لويس ساكو، من تعسّف وقرار جائر بعد أن سُحِب منه المرسوم الجمهوري المرقم 147، والصادر عام 2013 في زمن الرئيس جلال الطالباني. والمفارقة كان في ذلك الزمن الرئيس الحالي عبداللطيف رشيد، الذي كان يشغل رئيس دائرته وكبير المستشارين في رئاسة الجمهورية، علماً أن هناك مرسومين برقمي 145 و146 بنفس التاريخ صدرت في عام 2013 أيضاً لطائفتين لم يتم سحبهما”.
ونبّه إلى أن “السبب الثاني لهجرة المسيحيين من العراق هو وجود ميليشيات مسيحية مسلحة موالية لإيران، تعمل للسيطرة على القرار والصوت المسيحي، لكن غبطته وقف ضد ذلك وجرى ما جرى له بسبب ذلك“.
ومضى في حديثه، “لحد هذه اللحظة هناك ما يؤكد أن الموضوع سياسي موجَّه ضد البطريرك ساكو، من دون سواه، كما أن هناك ميليشيات أقامت عدداً من الدعاوى القضائية تصل إلى سبع دعاوى كيدية ضدَّه ردت المحكمة ثلاثاً، منها وما زالت الأربعة الباقية قائمة، وهو ما يؤكد أيضاً أن الأمر شخصي ضده لأنه وقف ضد تلك الميليشيات“.
وروى الباحث غازي رحو أن مدير مكتب رئيس الوزراء اتصل هاتفياً بالبطريرك قبل فترة وهو في أربيل وطلب منه العودة لكنه رفض، إلا في حالة إعادة حقوق الكنيسة ثم اتصل أحد مستشاري رئيس الوزراء به وطلب منه تقديم مقترحات لمعالجة الموضوع، وبالفعل قدم خمسة حلول على أن تُعرَض على رئيس الوزراء، وهذه منذ نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، ولكن حتى الآن لم يتلقََّ إجابة عن مقترحاته“.
عوامل أخرى لفقدان الثقة
لكن أبعاداً أخرى لا تتعلق بالتعامل مع نيافة الكاردينال وحده، تسببت في فقدان الثقة للمكون المسيحي، بالدولة العراقية عموماً، وتنامي الحديث عن هجرة جديدة لإفراغ المناطق المسيحية من سكانها الأصليين الذين يطلق عليهم سكنة العراق (ملح الأرض) كون مسيحيي العراق من أقدم المكونات التي عاشت في المناطق التي تعود لنحو ألفي عام منذ العهد الآشوري، وشعورهم اليوم بعدم الرضا وغياب الإنصاف.
ويوضح عضو الحركة الديمقراطية الآشورية، يونادم كنه، أنه:
“ليس من الإنصاف أن نعمّم الموقف، ولكن بالمجمل غالبية الأصوات في البرلمان لم تنصفنا أثناء التصويت على أي مطلب لممثلي المكون المسيحي (الكلداني السرياني الآشوري في البرلمان)“. وتابع “على سبيل المثال، فإن قانون الانتخابات بصيغته الحالية يصادر إرادة المكون المسيحي، في انتخاب ممثليه الشرعيين للبرلمان الاتحادي، وبرلمان الإقليم أيضاً، حتى لعضوية مجالس المحافظات، رغم أن حصر التصويت بناخبي المكوّن هو حق دستوري ووفق المعايير الدولية لمقاعد الكوتا، كما في الأردن وإيران ورومانيا وكرواتيا وفرنسا، إذ إن القانون يؤكد تخصيص المقاعد للمكوّن وليس لكل العراقيين”.
ونبَّه إلى أن هذا الحق طالب به جميع مرجعيات المسيحيين الدينية من البطاركة والأساقفة ورؤساء الطوائف المسيحية في العراق، كما أن المادة (26) من قانون البطاقة الوطنية تؤكد عدم ممارسة التمييز الديني أو أسلمة القاصرين رغماً عنهم وعن ذويهم، مضيفاً “القرآن الكريم يقول (لا إكراه في الدين)، والمادة الثانية بالدستور التي تضمن حرياتنا وحقوقنا الدينية”.
وانتقد المؤسسات الحكومية وبصورة خاصة الوزارات والأجهزة الأمنية، التي يتبخر وجود المسيحيين فيها، ويحرّم عليهم المناصب والدرجات العليا، تحت ظل سياسة المحاصصة والفساد.
دور الجماعات المسلحة بالتهجير
يعود عضو الحركة الديمقراطية الآشورية يونادم كنه أن الهجرة الخامسة للمسيحيين حدثت ليس لأن:
“بغداد والبصرة كانتا محتلَّتين من قبل تنظيم داعش الإرهابي بل غادروا بسبب التغيير والمناخات الطاردة والتهديدات وعدم الاطمئنان من المستقبل بسبب انفلات المافيات وضعف سلطة القانون وتفشي الإتاوات والتهديدات المستمرة من ضعاف النفوس والمستقويين بالجماعات المسلحة، إضافة لغياب العدالة وعدم وجود تكافؤ الفرص“. وأضاف “كل ما سبق أدى إلى عدم وجود فرص العمل والعيش الكريم للمسيحيين إضافة إلى الأوضاع العامة من غياب الخدمات ومستلزمات الحياة الكريمة كالسكن والمدارس والمستشفيات وغيرها من حقوق الإنسان الواردة في الفصل الثاني من الدستور، وآخرها داعش إلى جانب السطو على العقارات والأراضي للمكون ومصادرة إرادته وبعض الإجراءات التي تتذرع بالقانون، في حين كانت وما زالت استهدافات لصالح جهات سياسية سواءً معنا، أو سحب مرسوم التولية – المرسوم الجمهوري من غبطة الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكلدان في العراق والعالم وأحد مساعدي قداسة البابا“.
إجراءات أمنية مشددة رافقت زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق في 2021
وتابع “إضافة إلى ذلك حريق عرس الحمدانية الذي أودى بـ133 ضحية، وعدم استجابة الحكومة لأبسط مطالب مرجعياتنا الدينية، ثم تسويف التحقيقات في جريمة الحريق، وكل هذه المواقف والممارسات تعتبر عوامل ضاغطة وطاردة للمكون المسيحي”.
وتساءل، “حينما يعد المكون ضيفاً غير مرحَّب به وهو في بيته، المكون الأصلي والأصيل للعراق، ويفتخر ويعتز بانتمائه الوطني لا يشعر بأي اعتبار أو اطمئنان،
ماذا تنتظر منه في ظل هذه المناخات والظروف الطاردة؟”
وختم حديثه بالقول، “بالتالي المسيحي يهاجر مرغماً تحت ضغوط متراكمة بحثاً عن ملجأ آمن تحترم فيه كرامته، ويترك قلبه ومشاعره في الوطن رغم ما تعرض ويتعرض له من تهميش وإقصاء“.
مسؤولية السلطة الحاكمة
ويُحمِّل يونادم المسؤولية على الموجودين في السلطة ويملك القرار وتشريع القانون، وبإمكانه تحقيق العدالة الاجتماعية، ووَقف التمييز وإزالة العوامل الطاردة، وفرض سلطة القانون في العراق، واستعادة الممتلكات المنهوبة ومعالجة التشريعات المجحفة في حق المكون، إضافة إلى العوامل العامة التي تشل البلاد وفي مقدمها الفساد الإداري والمالي والمحاصصة التي تُقصي الخبرات والكفاءات، والمسيحيين وبقية مكونات الشعب العراقي“.
وختم حديثه بقوله، “بالتأكيد العراق لا يزال في مراحل انتقالية من كافة النواحي الاقتصادية والتنموية والسياسية،
وواجب الجميع أن يقوم بواجبه تجاه الوطن
ويشعر كل مسؤول أنه لكل العراق وكل العراق له...
عندها الجميع يكون بخير“