البطريرك ساكو: خمسون سنة على رسامتي الكهنوتية: ما يبقى هو ما نَعملُه بصِدقٍ وحبٍّ
نصف قرن (1 أيار 1974 – 1 أيار 2024) أمضيته بكلِّ قواي في خدمة المسيح، والكنيسة والعراق. خلال الأعوام الخمسين هذه، سعيتُ دومأ لأنتبه الى مسؤولياتي. عشتُ خبرة جميلة ومُفرحة. عرفتُ خلالها أشخاصاً عديدين، وعلاقات وصداقات، وأحداثاً كانت دروساً تعلمتُ منها وانضجتني. وأيقنتُ أن الحياة عندما تُعلِّم، إنما تُعلِّم التواضع، وعندما تتعثر تعلِّم كِبّر النفس، والتمسك بالمبدأ والنُبل.
لم أقدم نفسي يوماً فوق الجماعة التي اوكِلَتْ إليّ خدمتُها ككاهن واُسقف وبطريرك. بل بذلتُ جهدي في الاهتمام بها وإحاطتها بالعناية اللازمة، والدفاع عن حقوقها وكرامتها. من أجل ذلك اخترتُ ان يكون يوم رسامتي الكهنوتية في الأول من أيار (عيد العمال)، وليس يوم الأحد كما كان العُرف، لأكون على تماس مباشر مع الناس. لم البس الزيء الرسمي الا في مناسبات مهمة. ولم استعمل الشاش التقليدي الذي لا علاقة له بالكنيسة، اذ انه نوع من العمامة كان يرتديها الشيوخ والوجهاء سابقأً، إيماناً بأن “الثوب لا يصنع الراهب” كما يقول المثل الفرنسي! المنصب علاقة راع بالجماعة علاقة محبة وخدمة، وليس علاقة تَسلُّط.
لم يكن المال يوماً ما سيّدي! لا اتذكر إني استلمتُ نقوداً من أحد سوى راتبي والذي اصرف معظمه بفرح على الفقراء وإحتياجات الكنيسة. ولم اسعَ لمصلحة شخصية، ولا لترضية أحد على حساب ضميري. خلال هذه السنوات واجهتُ بعضَ “القلاقل“، لكني قدرت ان اتجاوزها بالصلاة والصراحة.
كنيستنا اليوم غير التي تسلمتها عام 2013. كنيستنا عَرَفت نهضة حثيثة، وعنها قال البابا فرنسيس خلال زيارته للعراق 2021 انها “كنيسة حيّة“. للكنيسة الكلدانية اليوم مكانة وحضور في العراق وبلدان الجوار وفي الشتات، من خلال نشاطها الكنسيّ والثقافي (مدارسها ومعاهدها التثقيفية وجامعتها والكتب التي تنشرها) والاجتماعيّ (من خلال عملها الإغاثي الإنساني خصوصاً أخوية المحبة وعياداتها الخيرية)، فضلاًعن موقفها الوطني، لذا تُستهدف!
كنت مدللاً من قِبل أساقفتي، رحمهم الله، لذا تعلمتُ كاُسقف وكبطريرك ان اُحب الكهنة، وان أكون قريبا منهم بجودة الأب وحنانه، لكن أيضاً بالصدق والحسم تجنباً للفوضى، لان، على المسؤول ان يكون صريحاً في قول الحقيقة، وألا يكسب الناس بالمجاملة والنفاق.
بالنسبة للرعية، وتنفيذاً لشعار رسامتي الكهنوتية والاسفقية: “ساُبَشِّرُ إخوَتي باْسمِكَ وفي سْطِ الجَماعةِ أُسَبِّحُكَ” (مزمور 22/ 23)، حاولت أن أكشف وجه المسيح الحقيقي، ومضمون رسالته على قدر الإمكان بالتنشئة على معرفته، من خلال تجديد الرُتَب الليتورجية بمفردات بسيطة ومفهومة لتغدو “صلاة”، عوضاً عن طقوس جامدة لِمَنْ يعتبرها “قلعة محصنة“. بحثتُ دوماً عن شيء مُغاير لان الانجيل بُشرى، يتكلم عن شيء مغاير، عن التجديد الذي أحدَثه المسيح. لذا عندما أكتب أو أعِظ أتكلم أولاً مع نفسي ولنفسي، لان على الواعِظ ان يعكس ما في داخله وإلّا فقَدَ مصداقيته!
أؤمن بالحوار والعيش المشترك المتناغم، والتعامل مع الجميع على ضوء تعليم المسيح: “كل انسان هو أخ”. كما أؤمن بوحدة كنائسنا في الجوهر، واحترم تنوّعَها الثري والمتميّز. أعترف بأني كاثوليكي الانتماء والعقيدة، ومشرقيّ (كلداني) في الجذور والليتورجيا.
قرار رئيس الجمهورية بسحب المرسوم (147) لعام 2013 والطريقة التي إتّبعها في تنفيذ قراره إهانة للكرامة بكل المعايير، بيد أنّنا لم نقطع الرجاء بان الله لن يتخلى عنّا أبداً، لذلك، وبالرغم من الألم، فنحن به “غالبون”.
كَشَفَت الأزمة حقيقة من يتعامل بوجهين: مَنْ يقف مع مَنْ، ومَنْ يدعم مَنْ، ومَنْ يساوم مِنْ أجل مصلحة، لكنها أظهرت أيضاً معدَن الصديق الصدوق، والحريص على الكنيسة!
بعد خمسين عاماً، اُعرب عن إمتناني لله، فكل ما لي من عنده، وليس لي سوى ضَعفي. اني اُجدّد تسليم ذاتي له بالكامل، من دون ان احتفظ لنفسي بشيء.
اشكر عائلتي التي وجدتُ فيها الدفء والدعم، لكني اعتبرتُ منذ البداية الكنيسة هي عائلتي الجديدة، ولها كرَّست عقلي وقلبي وكياني، وليس لاُسرتي الخاصة التي لم اُقرِّب أو أوظّف أحداً من افرادها في الكنيسة ولم اُسهّل هجرة أحد.
كما أعتذر جداً في حال كوني قد أسأتُ إلى أحد، فان الاعتذار صفة الشجعان، والمغفرة شيمة الفرسان.
يقتصر إحتفالي باليوبيل في ظل الظروف الراهنة، على الصلاة ومساعدة الفقراء، والشكر لله على كل شيء، والشكر لكل الذين دعموني. كما اُصلي من أجل كل الذين ضايقوني، وأتمنى لهم مراجعة ضميرهم على ضوء الروح “إنارة لعيون قلوبهم” (أفسس 1/ 18).
أخيراً اقول للذين يتسابقون على المناصب، أنها ليست حلاوة، بل انها مسؤولية ثقيلة ومُتعبة. كونوا رعاة مخلصين تمثُلاً بالمسيح. ضعوا أنفسكم تحت قيادة الروح القدس وعيشوا عيشة جديرة بدعوتكم بارتياح نفسي وروحي. أحيانا نُصدم أمام شخص كان جيدً، لكن حالماً صار في منصب تغيّر، بينما “يُفتَرَضْ” ان الشخص هو مَنْ يُغيّر المنصب، بما يتصف به من حب وإخلاص وعطاء. هذه هي الديناميكية.