كيف عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في الشرق الأوسط
كيف كان شكل المجتمعات العثمانية في الشرق الأوسط» (بل قل: شرق المتوسط)؟ وكيف كانت العلاقة بين بعض طوائفها، وتحديداً اليهودية، على صغر حجمها، والمسيحية بطوائفها المتعددة، والمسلمة، بكافة مذاهبها وطوائفها؟ لكن هذا التنوع غائب اليوم نتيجة المجازر الوحشية التي تعرّض لها المسيحيون، عدا عن بعض الطوائف المسلمة الأخرى. في كتابها «تاريخ المسلمين والمسيحيين واليهود في الشرق الأوسط» (cup 2017)، تناقش هيذر شاركي، أستاذة قسم اللغات وحضارات الشرق الأدنى في «جامعة بنسلفانيا»، التاريخ الذي تشارك فيه المسلمون والمسيحيون واليهود الفضاء ذات يوم في ظل الخلفية المتغيرة لسياسات الدولة. وتقدم شاركي تحليلاً حيوياً للتواصل الاجتماعي اليومي والملابس والموسيقى والطعام والاستحمام وما إلى ذلك من أنشطة اجتماعية يومية.
تعالج المؤلفة الأسئلة التاريخية الرئيسة ومن ذلك الدين كعامل توضيحي في التاريخ ومسائل العنف والحرية الدينية في الإسلام وإمكانية التشارك في الأمكنة العامة وفي الثقافة وفي العِلمانية. وفي عملها هذا، فإنها تدعم قراءاتها باستخدام الصور والملابس والأطعمة والأصوات كمصادر تاريخية. أي إن الكاتبة تدعو القرّاء إلى إعادة النظر في العلاقة بين المسلمين واليهود والمسيحيين، على أساس حياتهم اليومية.
في الفصل الأول (المسلمون والمسيحيون واليهود في الشرق الأوسط)، تقترح الكاتبة طريقة جديدة للنظر إلى العلاقات بين الطوائف من خلال الابتعاد عن التركيز الإثاري على الصراع والعنف، ومن ثم الذهاب نحو تحليل المواجهات اليومية بين الأفراد المسيحيين واليهود والمسلمين في المدن العثمانية اعتماداً على مصادر واسعة بما في ذلك المذكرات والموسيقى وكتب الطبخ والآثار، إضافة إلى الأشياء المادية للحياة اليومية مثل الملابس والأواني الفضية والطعام. وهي تجادل بأن استكشاف الأشياء غير المنطقية والدنيوية يكشف أكثر عن الطريقة التي رأى بها أفراد المجتمعات الدينية أنفسهم وتفاعلوا مع الآخرين.
خصصت الكاتبة الفصل الثاني لـ «الأسس الإسلامية للعلاقات بين الطوائف» حيث تتابع تطور مفهوم الذمة في بدايات الإمبراطوريات الإسلامية. تقول إن هذا الوضع القانوني لغير المسلمين سمح بدمج المجموعات الدينية الأخرى في نظام الحكم وإن كان في موقع التابع، وغالباً ما يخضع لقيود تتعلق بالحركة والعبادة. وقد تم تطوير هذا المفهوم وسيلة لإنشاء التسلسلات الهرمية الاجتماعية بين المجتمعات الدينية وتعزيزها، والاقتراض من السياسات البيزنطية والساسانية. تدريجاً، فإن القانون والممارسات الاجتماعية مثل القيود على الملابس، عززت الفوارق بين الجماعات الدينية. ومع ذلك، توضح الكاتبة أن الثقافة الشعبية توفر مساحة من التأثير والترابط بين المسيحيين واليهود والمسلمين من خلال تحليل كتب الطبخ والموسيقى وغيرها، كما تجادل بأن المجتمعات الإسلامية كانت تتشكل أيضاً من خلال تأثير غير المسلمين في عالمهم.
في الفصل الثالث (التجربة العثمانية)، تستكشف شاركي الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن الثامن عشر وهي الفترة التي حددت سماتها الأزمة والتكيف من خلال بحث مدى نجاح الإمبراطورية العثمانية في «إدارة التنوع» من خلال تحليل استخدامات الأشياء اليومية وإنتاجها. تقدم الكاتبة السياسات العثمانية تجاه غير المسلمين في عالمها باعتبارها استمراراً لسياسات الدول الإسلامية السابقة، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى خصوصيات الحكم في إمبراطورية حديثة تتماشى مع الإمبراطوريات المجاورة. كما تبحث في كيفية تعزيز التسلسلات الهرمية الاجتماعية المختلفة القائمة على الدين وأيضاً على المهنة والطبقة واللغة من خلال الممارسات الاجتماعية والقانونية. وتجادل بأن الاستمرارية كانت مضمونة من خلال وجود إطار يمكنه استيعاب التغيير والتكيف معه. وعلى هذا النحو وفّرت الذمة بعض الاستقرار في العلاقات بين الطوائف. لكن نقطة تحول حدثت خلال القرن الثامن عشر عندما تم تحدي إطار الاستمرارية مع الماضي، ما حوّل المشهد الاجتماعي بين المجتمعات وداخلها.
يتناول الفصل الرابع (الإمبراطورية العثمانية في عصر الإصلاح: من السلطان محمود الثاني إلى نهاية عهد التنظيمات 1808-1876) موضوع التنظيمات والجذور التاريخية للإصلاح العثماني. وتعرف الكاتبة الحداثة بأنها صعود السلوكيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الفردية التي تتحدى العقود الاجتماعية القائمة والتسلسلات الهرمية السياسية. وتقول إن الدولة العثمانية ردت بطرق متناقضة أو متعارضة على هذه التغييرات في القرن التاسع عشر من خلال تأكيد المساواة مع إعادة توحيد المجتمعات غير المسلمة كيانات سياسية. تعالج شاركي العنف بين الطوائف في هذه الفترة وترى أنها نتيجة لعدد من العوامل بما في ذلك تأكيد قوة الدولة الخارجية وزوال النظام الإقطاعي ونشوء نخبة تجارية جديدة، وتطور الطائفية كعملية تسييس الهويات الدينية. وترى أن التغير الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي بين المجتمعات الدينية اللذين نشآ عن هذه التغييرات، أديا إلى استياء ما، شكّل خلفية عنف طائفي في تلك الفترة بما في ذلك الهجوم على المسيحيين في حلب عام 1850 وفي دمشق عام 1860.
الثقافة الشعبية وفّرت مساحة من التأثير والترابط بين الجماعات الدينية
يتناول الفصل الخامس (العصر المحوري لعبد الحميد الثاني 1876-1909) عصر عبد الحميد كسلطان استخدم الخطاب الديني والإسلامي لإضفاء الشرعية بين الرعايا المسلمين على حكمه المطلق في وقت تتزايد فيه الهزائم العسكرية وتهديدات الانفصال أو التمرد. بعد ذلك، أصبح يُنظر إلى الدين على نحو متزايد باعتباره مسألة معتقد لا مجرد تعريف عام نتيجة لسياسة الدولة والتأثير التبشيري، ومغزى ذلك للحياة اليومية للمواطنين العثمانيين. والسؤال الذي تطرحه الكاتبة هو: إذا كان خطاب عبد الحميد الثاني الإسلامي وسياساته قد عززا أهمية الدين، إلا أنّ ذلك أدى إلى نتيجتين متناقضتين. في أمكنة مثل الأناضول الشرقية، فاقمت هذه السياسات التفاوتات الاجتماعية بين المسيحيين وطوّرت الأفكار الإسلامية القومية واكتسب الدين أهمية، لكن في المراكز الحضرية مثل دمشق والقاهرة ضعفت أهميته من خلال خلق فضاءات اجتماعية علمانية.
في الفصل السادس والأخير (نلتقي ونتباعد: العثمانيون المسلمون والمسيحيون واليهود في مطلع القرن)، تنهي شاركي مؤلفها بتحليل مسارات التقارب والاختلاف في نهاية الإمبراطورية العثمانية وتتحدث عن مفارقة زيادة مساواة المركز وتطور المساحات العلمانية مع التكلس المتزامن للهويات الدينية والعنف بين الفصائل. كما شددت على مقدرة الدين على الاستمرار كطريقة لتصنيف اجتماعي كان قادراً على ترجمة نفسه إلى فضاءات علمانية جديدة من التواصل الاجتماعي والتي يمكن أن ينتهي بها الأمر إلى توفير منصة للأجندات الدينية وتحدي ثنائية الصراع بين المحافظين والإصلاحيين. بحلول نهاية القرن التاسع عشر، شعر جزء كبير من السكان المسلمين بالحصار من التحولات الاجتماعية والاقتصادية وساهم استياؤهم، من بين أمور أخرى، في المذابح الواسعة النطاق للأرمن في الأناضول في نهاية القرن التاسع عشر، دوماً بحسب الكاتبة. وقد أتاح خطاب الدولة إطاراً للشرعية سمح بحدوث مثل هذه الكوارث.